فلهذا صار كلام المتأخرين ـ كابن سينا وأمثاله ـ في الإلهيات والكليات أجود من كلام سلفه؛ ولهذا قربت فلسفة اليونان إلى أهل الإلحاد المبتدعة من أهل الملل، لما فيها من شوب الملة؛ ولهذا دخل فيها بنو عبيد الملاحدة، فأخذوا عن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركين العقل والنفس، وعن المجوس النور والظلمة، وسموه : هم السابق والتالي، وكذلك الملاحدة المنتسبون إلى التصوف والتأله ـ كابن سبعين وأمثاله ـ سلكوا /مسلكًا جمعوا فيه ـ بزعمهم ـ بين الشرع والفلسفة، وهم ملاحدة ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، وقد بسط الكلام على هؤلاء وهؤلاء في غير هذا الموضع.
وإنما ذُكِروا هنا؛ لأن أهل الكلام المحدث صاروا ـ لعدم علمهم بما علمه السلف وأئمة السنة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، ولما وقعوا فيه من الكلاميات الباطلة ـ يُدْخِلُ بسببهم هؤلاء الفلاسفة في الإسلام أمورًا باطلة، ويحصل بهم من الضلال والغي ما لا يتسع هذا الموضع لذكره.
ولما أحدثت الجهمية محنتهم، ودعوا الناس إليها، وضرب أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين، كان مبدأ حدوث القرامطة الملاحدة الباطنية من ذلك الزمان، فصارت البدع باب الإلحاد، كما أن المعاصي بريد الكفر، ولبسط هذا موضع آخر.
والمقصود هنا الكلام على لفظ التحيز والجهة، وهؤلاء المتكلمون المتفلسفة صار بينهم نزاع في الملائكة : هل هي متحيزة أم لا ؟ فمن مال إلى الفلسفة ورأى أن الملائكة هي العقول والنفوس التي يثبتها الفلاسفة، وأن تلك ليست متحيزة، قال : إن الملائكة ليست متحيزة، لا سيما وطائفة من الفلاسفة لم تجعل عددها عشرة عقول وتسعة نفوس ـ كما/ هو المشهور عن المشائين ـ بل قال : لا دليل على نفي الزيادة، ورأى النبوات قد أخبرت بكثرة الملائكة، فأراد أن يثبت كثرتهم بطريقة فلسفية، كما فعل ذلك أبو البركات ـ صاحب [ المعتبر ] ـ والرازي في [ المطالب العالية ] وغيرهما.