وإذا تبين ذلك، فالمتشابه من الأمر لابد من معرفة تأويله؛ لأنه لابد من فعل المأمور، وترك المحظور، وذلك لا يمكن إلا بعد العلم، لكن ليس في القرآن ما يقتضى أن في الأمر متشابهًا، فإن قوله :﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٧ ]، قد يراد به من الخبر، فالمتشابه من الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب، فإن بين هذا وبين/ ما في الدنيا تشابه في اللفظ والمعنى، ومع هذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا، وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا، وقد قال الله تعالى :﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ السجدة : ١٧ ]. وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى :( أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا حظر على قلب بشر )، فهذا الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا تعلمه نفس هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، وأشراطها، وكذلك كيفيات ما يكون فيها من الحساب والصراط والميزان والحوض والثواب والعقاب لا يعلم كيفيته إلا الله، فإنه لم يخلق بعد حتى تعلمه الملائكة، ولا له نظير مطابق من كل وجه حتى يعلم به، فهو من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
وكذلك ما أخبر به الرب عن نفسه مثل استوائه على عرشه وسمعه وبصره وكلامه وغير ذلك، فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس. وسائر أهل العلم تلقوا هذا الكلام عنهما بالقبول لما قيل :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [ طه : ٥ ]، كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. هذا لفظ مالك. فأخبر أن الاستواء معلوم وهذا تفسير اللفظ، وأخبر أن الكيف مجهول، وهذا هو الكيفية التي استأثر الله بعلمها.


الصفحة التالية
Icon