لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ؟ ! فإن هؤلاء أوذوا اختيارًا منهم لعبادة الله فعودوا، وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم، فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا، وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره، كما أُخِذ يوسف من أبيه بغير اختياره؛ ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز، واختياره السجن على معصية الله، /أعظم من إيمانه، ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له؛ ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك؛ ولهذا قال تعالى فيه :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ يوسف : ٢٤ ].
وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب، فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله. قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري : أفعال البر يفعلها البر والفاجر، ولن يصبر عن المعاصي إلا صِدِّيق، ويوسف ـ صلوات الله عليه ـ كان صديقًا نبيًا. وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير، ومن لم يصبر صَبْر الكرام سَلا سَلْوَ البهائم، وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له، فعفوه عنه من المحاسن والفضائل، لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا، فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتاليفهم لقلوب الناس، وكان معاوية من أحلم الناس، وكان المأمون حليمًا حتى كان يقول : لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلى بالذنوب؛ ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك ـ وهو عمه إبراهيم بن المهدي ـ عفا عنه.