وأيضًا، فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال : لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره.
وهذا ـ أيضًا ـ مما يحتجون به، ويقولون : المتشابه : أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره، قالوا : ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونور، ولم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا : ولأن من العظيم أن يقال : إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي ﷺ يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس.
وأيضًا، فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك، كان عبثًا وباطلًا، والله ـ تعالى ـ قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم ؟ ! وهذا من أقوى حجج الملحدين.
وأيضًا، فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها، وبينوا ذلك. وإذا قيل : فقد يختلفون في بعض ذلك، قيل : كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها. وهذا ـ أيضًا ـ مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي.