وأما التأويل بالمعنى الثالث، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فهذا الاصطلاح لم يكن بَعْدُ عُرِفَ في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمة الأربعة، ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفًا في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحدًا منهم خص لفظ التأويل بهذا، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعًا في عرف كثير من المتأخرين، فظنوا أن التأويل في الآية هذا معناه، صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معانٍ تخالف ما يفهم منه، وفرقوا دينهم بعد ذلك، وصاروا شيعًا، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد، وإنما الخطأ في فهم السامع. نعم قد يقال : إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلوب، ولكن فرق بين عدم دلالته على المطلوب، وبين دلالته على نقيض المطلوب. فهذا الثاني هو المنفي، بل وليس في القرآن ما يدل على الباطل البتة، كما قد بسط في موضعه.
وَلَكِنْ كثيرٌ من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى، إما معنى يعتقده، وإما معنى باطلًا فيحتاج إلى تأويله، ويكون ما قاله باطلًا لا تدل الآية على معتقده، ولا على المعنى الباطل. وهذا كثير جدًا. وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرًا ما يحتاج إلى التأويل المحدث، وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله.
ومما يحتج به من قال : الراسخون في العلم يعلمون التأويل، ما ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن ابن عباس؛ أن النبي ﷺ دعا له وقال :( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )، فقد دعا له بعلم التأويل مطلقًا، وابن عباس فسر القرآن كله. قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وكان يقول : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.