وهؤلاء الذين ينصرون أن الرسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه هم من أكثر الناس كلاما فيه.
والأئمة ـ كالشافعي وأحمد ومن قبلهم ـ كلهم يتكلمون فيما يحتمل معاني، ويرجحون بعضها على بعض بالأدلة في جميع مسائل العلم الأصولية والفروعية، لا يعرف عن عالم من علماء المسلمين أنه قال عن نص احتج به محتج في مسألة : إن هذا لا يعرف أحد معناه فلا يحتج به، ولو قال أحد ذلك لقيل له مثل ذلك، وإذا ادعى في مسائل النزاع المشهورة بين الأئمة أن نصه محكم يعلم معناه، وأن النص الآخر متشابه لا يعلم أحد معناه قوبل بمثل هذه الدعوة. وهذا بخلاف قولنا : إن من النصوص ما معناه جلى واضح ظاهر لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يقع فيه اشتباه، ومنها ما في خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم، فإن هذا تفسير صحيح. وحينئذ فالخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه، فمن قال : إنه يعرف معناه يبين حجته على ذلك.
وأيضًا، فما ذكره السلف والخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه.
فمن قال : إن المتشابه هو المنسوخ، فمعنى المنسوخ معروف، وهذا القول مأثور عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم. وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، معلوم قطعا باتفاق المسلمين أن الراسخين يعلمون معنى المنسوخ، وأنه منسوخ، فكان هذا النقل عنهم يناقض ذلك النقل، ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقا، وإلا تعارض النقلان/ عنهم. والمنقول عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه.