ولما اعتمر عمرة القضية وكانت مكة مع المشركين لم تفتح بعد، وكان المشركون قد قالوا : يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حُمى يثرب، وقعد المشركون خلف قعيقعان ـ وهو جبل المروة ـ ينظرون إليهم، فأمر النبي ﷺ أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط من الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم. وروى أنه دعا لمن فعل ذلك، ولم يرملوا بين الركنين؛ لأن المشركين لم يكونوا يرونهم من ذلك الجانب، فكان المقصود بالرمل إذ ذاك من جنس المقصود بالجهاد، فظن بعض المتقدمين أنه ليس من النسك؛ لأنه فعل لقصد وزال، لكن ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ وأصحابه لما حجوا رملوا من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، فكملوا الرَّمْلَ بين الركنين، وهذا قدر زائد على ما فعلوه في عمرة القضية، وفعل ذلك في حجة الوداع مع الأمن العام، فإنه لم يحج معه إلا مؤمن، فدل ذلك على أن الرمل صار من سنة الحج، فإنه فعل أولا لمقصود الجهاد، ثم شرع نسكًا، كما روى في سعى هاجر، وفي رمي الجمار، وفي ذبح الكبش : أنه/فعل أولًا لمقصود، ثم شرعه الله نسكًا وعبادة، لكن هذا يكون إذا شرع الله ذلك وأمر به، وليس لأحد أن يشرع ما لم يشرعه الله، كما لو قال قائل : أنا أستحب الطواف بالصخرة سبعًا، كما يطاف بالكعبة، أو أستحب أن أتخذ من مقام موسى وعيسى مصلى، كما أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، ونحو ذلك، لم يكن له ذلك؛ لأن الله ـ تعالى ـ يختص ما يختصه من الأعيان والأفعال بأحكام تخصه يمتنع معها قياس غيره عليه، إما لمعنى يختص به لا يوجد بغيره على قول أكثر أهل العلم، وإما لمحض تخصيص المشيء ة على قول بعضهم، كما خص الكعبة بأن يحج إليها ويطاف بها، وكما خص عرفات بالوقوف بها، وكما خص منى برمي الجمار بها، وكما خص الأشهر الحرم بتحريمها، وكما خص شهر رمضان بصيامه وقيامه، إلى أمثال ذلك.


الصفحة التالية
Icon