ثم جاء بعد هؤلاء طائفة قالوا : التلاوة غير المتلو، وأرادوا بالتلاوة : نفس كلام اللّه العربي الذي هو القرآن، وأرادوا بالمتلو معنى واحدًا قائما بذات اللّه. وقال آخرون : التلاوة هي المتلو، وأرادوا بالتلاوة : نفس الأصوات المسموعة من القراء، جعلوا ما سمع من الأصوات هو نفس الكلام الذي ليس بمخلوق، ولم يميزوا بين سماع الكلام من المتكلم وبين سماعه من المبلغ له عنه، فزاد كل من هؤلاء وهؤلاء من البدع ما لم يكن يقوله أحد من أهل السنة والعلم، فلم يكن من أهل/السنة من يقول : إن القرآن العربي ليس هو كلام اللّه، ولا يجعل المتلو مجرد معنى، ولا كان فيهم من يقول : إن أصوات العباد ـ وغيرها من خصائصهم ـ غير مخلوق، بل هم كلهم متفقون على أن القرآن المتلو هو القرآن العربي الذي نزله روح القدس من اللّه بالحق، وهو كلام اللّه الذي تكلم به، ولكن تنازعوا في تلاوة العباد له : هل هي القرآن نفسه ؟ أم هي الفعل الذي يقرأ به القرآن ؟
والتحقيق أن لفظ [ التلاوة ] يراد به هذا وهذا، ولفظ [ القرآن ] يراد به المصدر ويراد به الكلام، قال اللّه تعالى :﴿ إِنَّ علينا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ علينا بَيَانَهُ ﴾ [ القيامة١٧ : ١٩ ]، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : إن علينا أن نجمعه في قلبك، وتقرأه بلسانك. وقال أهل العربية : يقال : قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ومنه قول حسان :
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا