والذي اتفق عليه السلف : أن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال غير واحد منهم : منه بدأ وإليه يعود. قال أحمد بن حنبل وغيره : منه بدأ، أي : هو المتكلم به، لم يبتد من غيره كما قالت الجهمية القائلون بأن القرآن مخلوق. قالوا : خلقه في غيره، فهو مبتدأ من ذلك المحل المخلوق، ويلزمهم أن يكون كلاما لذلك المحل المخلوق لا لله/ تعالى، لا سيما والجهمية كلهم يقولون بأن الله خالق أفعال العباد ـ وهم غلاة في الجبر ـ ولكن المعتزلة توافقهم على نفي الصفات والقول بخلق القرآن، وتخالفهم في القدر والأسماء والأحكام، فإذا كان الله خالق كل ما سواه لزمهم أن يكون كل كلام كلامه، لأنه هو الذي خلقه؛ ولذلك قال ابن عربي الطائي ـ وكان من غلاة هؤلاء الجهمية ـ يقول بوحدة الوجود، قال :
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه
ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي ـ نظير أحمد بن حنبل الذي قال الشافعي : ما رأيت أعقل من رجلين : أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي ـ قال : من قال :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾ [ طه : ١٤ ] مخلوق فهو كافر. وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال :﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ]، وزعموا أن هذا مخلوق ؟ ! ومعنى ذلك كون قول فرعون :﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى ﴾ كلاما قائمًا بذات فرعون، فإن كان قوله :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾ كلاما خلقه في الشجرة كانت الشجرة هي القائلة لذلك ـ كما كان فرعون هو القائل لذلك ـ وحينئذ فيكون جعل الشجرة إلها أعظم كفرًا من جعل فرعون إلها.


الصفحة التالية
Icon