إن مصطلحات القرآن الحكيم تحوي رموزا وإشارات، لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم الذين طهرهم المولى وفتح قلوبهم للعلم (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)(٧).
إن نظرية وحدة المعرفة تنطلق من وحدة الوجود أو عالم الإنسان الواحد، ومنه جاءت الأديان وهي ذات حقيقة واحدة وهي معرفة الإله.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فوحدة المعرفة ووحدة الوجود، ووحدة عالم اللسان المتمثلة في البيان (الرحمن خلق الإنسان علمه البيان)(٨) صحيح أن الاختلاف في الألسن وأنظمة الأصوات ودلالاتها، لكنها لا تعني اختلاف الإنسان (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)(٩) فكان الاصطلاح بين العلماء على البيان.
يحيل البحث عن وحدة المصطلحات إلى وحدة الإنسان، فهذا علم الأنثروبولوجيا العلم الذي يبحث في أصل الإنسان، وتقاليده، وعاداته وأديانه ورسومه وثقافته وأجناسه، كشف عن وحدة البشر بفعل الانتشار الثقافي من جهة ووحدة العقل البشري الذي كان قد أشار إليه القرآن سلفا (يا أيها الناس، اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)(١٠).
إن علم اللغة الحديث يبحث في اللغة تحت نظرية العلامات وهو يقرر أن هدفها (وظيفي هو الاتصال وهو ضرورة ملازمة للإنسان)(١١) والاصطلاح لا يكون إلا في وسط الجماعة، وامتياز البشر عن سائر المخلوقات باللغة أو القلم الذي هو سلاح العلم والمعرفة (يرفع الله اللذين آمنوا منكم واللذين أوتوا العلم درجات)(١٢).
قد يقال أن للحيوان لغته ولكنها في الحقيقة ليست لغة بالمفهوم المنطوق، بل هي إشارات لا ترقى إلى مستوى لغة البشر (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون)(١٣).
إن الافتراض السالف يحمل مشروعيته من جهتين :
١- عدم ثبوت مانع عقلي، أو منطقي تصوري.
٢- وجود قرائن تقويه من خلال ملاحظات أولية، وتجارب غير مشتهرة، أكدت أن القلب البيولوجي الطبي، حامل لتأثيرات مجاوزة لوظيفته الدموية المعلنة في العرف الطبي، وليس بإمكاني هنا تفصيل القول في أمر هذه التجارب، وتلك القرائن، لكنها موجودة على أي حال، ولعل من أكفأ من طرقها -بين المسلمين- الشيخ العالم : عبد المجيد الزنداني.
إن من صور تعالي القرآن المجيد على مستوى غيره، ما يحفل به من إشكالات مصطلحية، فضلاً عن الإشكالات المفهومية المعنوية، مما دفع بعض علماء المسلمين إالى تصنيف كتب تعالج هذه الظاهرة القرآنية، من ذلك ماكتبه ابن قتيبة، تحت عنوان :(تأويل مشكل القرآن). ونحو ذلك ما سبقه إليه الكسائي في كتابه( متشابه القرآن) إضافة إلى ما انتثر وسط منظومة كتب التفسير القرآنية.
وقد كان من أشهر المصطلحات القرآنية إثارة للأقلام : ثنائية الإسلام والإيمان، وثنائية النفس والروح، والحجة والبرهان، والقضاء والقدر، وكذا مصطلحات : القلب، والفؤاد، واللب، والحِجر.(٦) كل أولئك حمل صوراً من التمازج المعنوي، إلى جانب التمايز المفهومي، ذلك كلّه في آن واحد، قائماً على إضاءات لغوية حيناً، وإنارات اجتهادية حيناً آخر، وتكلفات وتأملات شخصية، تأتي طوراً في هيئة إنارات مبدعة، وطوراً في صورة تكلفات سخيفة. ولقد كانت ساحة التصوف النظري أرحب السوح الحاوية لتلك الصور، والإنارات، والتكلفات.
وقد جرت محاولات حديثة إلى فك الإشكالات المفهومية التي تلتحف بها تلك المصطلحات القرآنية خاصةً. وربما كان من أهم وأجرأ هاتيك المحاولات ما كتبه نيازي عز الدين في كتابه (إنذار من السماء) ومحمد شحرور في كتابه (الإسلام والإيمان)وكذا في قراءته المعاصرة للقرآن.
وقمين بالذكر أن كثيراً من المصطلحات القرآنية داخلة ضمن ما اسمّيه (المصطلَح غير المصطلِح) وهذا النوع هو الأكثر ذيوعاً وسط منظومة المصطلحات العربيةفي كل مجال معرفي، وأعني به تحديداً تلك المصطلحات التي فقدت مزية الإجماع على دلالاتها، وبعبارة أخرى ما تعدد مفهومه واتحد هيكله اللفظي، وهذا الضرب قريب الشبه جداً بما عرفته اللغة باسم المشترك اللفظي، بيد أن وجه التمايز بينها هو أن المشترك اللفظي تعبير استعمله الناس بحسب وضعه اللغوي الأصلى أما المصطلَح غير المصطلِح فهو تعبير استعمله الناس بحسب دلالة تواضعية متطرّئة على دلالته الأصلية، كما هو الحال في التواضع على تحميل لفظة الزكاة معنى جديداً يحيل إلى تلك العبادة الإسلامية المعروفة، بدلاً من الدلالة الوضعية الأصلية التي هي النمو والزيادة. وكتحميل لفظة الدنيا معنى الحياة الأولى للإنسان قبل موته، بدلاً من دلالة القرب و السفول، حسب الأصل اللغوي الوضعي.
ويرى الدارسون أنَّ القرآن سبب ظهور علم الغريب بمفهومه العام، وما جرَّ إليه من حركة جمع الشعر والنوادر، وما تبع ذلك من رحلات علمية نشطة إلى البوادي [٢٢]. ومن الكتب التي وصلَتْنَا في هذا الحقل: كتاب "الغريبَيْن": غريب القرآن وغريب الحديث لأبي عبيد الهروي، و "بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب" للتركماني، و "تذكرة الأريب في تفسير الغريب" لابن الجوزي. وقد خَدَمَتْ هذه المصنفات كتاب الله بأنَّها اختَصَّتْ بما يراه أصحابها داخلًا تحت مصطلح الغريب، فيمضون في شرحه وبيان آراء العلماء في دلالته، وقد كان في مصنفات الغريب مادة ذات شأن أفادت منها كتب التفسير عبر القرون؛ وذلك لأنَّ المفسِّر لا بد أن يبدأ بالمعنى اللغوي للمفردة القرآنية قبل الشروع في استنباط الأحكام منها.
ومن ذلك ما قاله ابن قتيبة [٢٣]: "قوله: ؟وما أهِلَّ به لغير اللهٌ؟ [البقرة: ١٧٣] أي: ما ذُبح لغير الله، وإنَّما قيل ذلك لأنه يُذْكر عند ذبحه غيرُ اسم الله فيظهر ذلك، أو يرفع الصوت به، وإهلال الحج منه، إنما هو إيجابه بالتلبية. واستهلال الصبي منه إذا وُلِدَ، أي صوته بالبكاء".
- ٧وثمة دراسات في "الفروق اللغوية" أفاد منها المفسرون كثيرًا، واختلفَتْ وجهات نظرهم في توجيه كثير من الآيات القرآنية. ومن هذه الدراسات "كتاب الفروق في اللغة" لأبي هلال العسكري، يقول في مقدمته: "وجعلت كلامي فيه على ما يُعْرض منه في كتاب الله وما يجري في ألفاظ الفصحاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس" [٢٤]، ومن أمثلته في كتابه [٢٥]: "الفرق بين الهداية والإرشاد أن الإرشاد إلى الشيء هو التطريقُ إليه والتبيين له، والهداية هي التمكُّن من الوصول إليه، وقد جاءت الهداية للمهتدي في قوله تعالى: ؟اهْدِنا الصِّراطَ المستقيمٌ؟ [الفاتحة: ٦]، فذكر أنَّهم دَعَوا بالهداية وهم مُهْتدون لامَحالةَ، ولم يَجئ مثل ذلك في الإرشاد، ويقال أيضًا: هداه إلى المكروه، كما قال تعالى: ؟فاهْدُوهم إلى صراط الجحيمٌ؟ [الصافات: ٣٣].
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى وجود الترادف في العربية وقالوا: لا معنى لإقامة البرهان على جوازه بعد تحقُّق وقوعه، وإنكارُ الترادف جاء من تَعَسُّفات الاشتقاقيين، وهذا مذهب كثير من العلماء كأبي زيد والأصمعي وابن خالويه. وذهب آخرون إلى إنكار الترادف التام بين الألفاظ وأنَّ كلَّ ما يلوح باديَ الرأي أنه من المترادفات إنَّما هو في حقيقته من المتباينات، على اختلافٍ في قَدْر هذا التباين ووضوحه [٢٦]. ومثال تأثير الفروق اللغوية في تفسير القرآن ما قاله الطبري في تفسير قوله تعالى: ؟ألم يعلموا أنَّ الله يعلم سِرَّهم ونجواهم وأن اللهَ عَلاَّمُ الغُيوبٌ؟ [التوبة: ٧٨]، فقد فسَّر الطبري السِّرَّ: بأنَّه هو ما يُسِرُّونه في أنفسهم من الكفر بالله ورسوله، والنجوى: ما يتناجَوْن به بينهم من الطعن في الإسلام وعَيْبهم لأهله" [٢٧] وهذا خلاف ما يقول به بعضهم: مِنْ أن السر والنجوى مترادفان بمعنى واحد. فهذا ضرب جديد من الخدمة اللغوية عني به السلف، وكان له أثر في فهم كثير من الآيات، ودلالة ألفاظها.
... فإذا كان الأمر كذلك، فما هو المخرج من هذا المأزق الهالك ؟
إذا كان المسلمون لم يتمكنوا من إنشاء جامعة إسلامية تلم شتاتهم في سياسة الحكم و الاقتصاد و الاجتماع، فإنه لمن أوجب الواجبات عليهم شرعا أن يبادروا إلى إنشاء (( مجمع لغوي عربي إسلامي )) موحد يكون المختبر العلمي الدقيق و المعمل اللغوي الوثيق و المصدر الأساس لكل المفاهيم العربية الإسلامية الأصيلة، بناء على قاعدة متينة ذات سبعة أركان هي :
١- القرآن هو الأصل الأصيل الثابت لكل جذور و جدوع المفاهيم العربية في الماضي و الحاضر و المستقبل. و لذلك يجب تمحيص المفهوم العربي لأي لفظ على ضوء ورود جذره المعنوي في شمولية القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة، بعموم اللفظ و خصوصه.
٢- أن يوضع تخطيط دقيق لإستراتجية بعيدة المدى تمكن من ضبط المفهوم العربي مستقلا عن المفاهيم الأجنبية الدخيلة وفقا لتعاليم الإسلام الحنيف، مع الاحتراز من الوقوع في سوء التأويل الذي يفضي إلى انتهازية مقيتة و استغلال مغرض للمفاهيم الخاطئة.
٣- أن يستقطب للمشاركة في تحديد المفهوم الدقيق لما تدعو إليه الحاجة من مستجدات، كل المهتمين بالشأن اللغوي خاصة ؛ و أن لا يقتصر الأمر على ذوي الاختصاص من العلماء فقط، إذ من الثابت الذي لا اختلاف عليه أنه قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
٤- أن يعرض المفهوم المتفق عليه في مرحلة أولى، قبل اعتماده نهائيا، على نظر عموم المهتمين من المسلمين عامة و من العرب خاصة، من خلال وثيقة بيان يعمم نشرها و تحدد المدة المناسبة لتداولها بين الناس من أجل الإدلاء بآرائهم.
٥- أن يناقش المجمع ما يرد إليه من آراء و اقتراحات وجيهة، بعد قيام جهاز خاص، بشري أو تقني أو هما معا، بالغربلة اللازمة و أن لا يحتفظ إلا بما ثبتت أهميته و جديته. ثم يختم مناقشاته باعتماد المفهوم الصحيح نهائيا؛ و يعلن ذلك على العموم في بيان خاص.
٦- أن يقوم (( المجمع اللغوي العربي الإسلامي )) بإعادة النظر في معجمه كل سنة مرة على الأقل، قبل أن يصدر طبعته المنقحة الجديدة في صيغ مختلفة من كتب و أقراص إلكترونية، و كل ما تنتجه المدنية من وسائل نافعة.


الصفحة التالية
Icon