ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ حُجَّةَ الْقَوْلَيْنِ «١»، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ «٢» وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ:
«بِأَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَمَرَ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) - حِينَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ: حَائِضًا.-: أَنْ يَأْمُرَهُ: بِرَجْعَتِهَا [وَحَبْسِهَا «٣» ] حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا: طَاهِرًا، مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
«فَتِلْكَ الْعِدَّةُ: الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) : أَنْ يُطَلَّقَ «٤» لَهَا النِّسَاءُ.»
قَالَ الشَّافِعِيُّ: « [يَعْنِي «٥» ]- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-: قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ: ٦٥- ١) فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَّ الْعِدَّةَ: الطُّهْرُ، دُونَ الْحَيْضِ «٦».»
(٢) أنظر الرسَالَة (ص ٥٦٩)، والمختصر وَالأُم (ج ٥ ص ٢- ٤ و١٩١- ١٩٢).
وراجع فى الْأُم (ج ٥ ص ٨٩) كَلَامه فى الْفرق بَين اخْتِيَاره هَذَا، وَمَا ذهب إِلَيْهِ فى الِاسْتِبْرَاء: من أَنه طهر ثمَّ حَيْضَة. فَهُوَ مُفِيد هُنَا وَفِيمَا ذكر فى الرسَالَة (ص ٥٧١- ٥٧٢) :
مِمَّا لم يذكر فى الأَصْل.
(٣) زِيَادَة مفيدة، عَن الرسَالَة (ص ٥٦٧).
(٤) فى الْأُم (ج ٥ ص ١٦٢ و١٩١) :«تطلق». وَحَدِيث ابْن عمر هَذَا، قد روى من طرق عدَّة، وبألفاظ مُخْتَلفَة. فَرَاجعه فى الْأُم والمختصر، وَاخْتِلَاف الحَدِيث (ص ٣١٦)، وَالسّنَن الْكُبْرَى (ج ٧ ص ٣٢٣- ٣٢٧ و٤١٤)، وَشرح الْمُوَطَّأ للزرقانى (ج ٣ ص ٢٠٠- ٢٠٢ و٢١٨)، وَفتح الْبَارِي (ج ٩ ص ٢٧٦- ٢٨٥ و٣٩١)، وَشرح مُسلم للنووى (ج ١٠ ص ٥٩- ٦٩)، ومعالم السّنَن (ج ٣ ص ٢٣١).
(٥) أَي: الرَّسُول. وَالزِّيَادَة عَن الرسَالَة (ص ٥٦٧)، وَالْجُمْلَة الاعتراضية مُؤخر فِيهَا عَن الْمَفْعُول.
(٦) قَالَ الشَّافِعِي بعد ذَلِك (كَمَا فى الْمُخْتَصر وَالأُم: (ج ٥ ص ٣ و١٩١) :«وَقَرَأَ (فطلقوهن لقبل عدتهن) وَهُوَ: أَن يطلقهَا طَاهِرا. لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تسْتَقْبل عدتهَا.
وَلَو طلقت حَائِضًا: لم تكن مُسْتَقْبلَة عدتهَا، إِلَّا من بعد الْحيض.». اهـ. وَانْظُر زَاد الْمعَاد (ج ٤ ص ١٩٠). وَأَقُول:
قَوْله تَعَالَى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) - بِقطع النّظر عَن كَون مَا روى فى الْأُم والمختصر، والموطأ وصحيح مُسلم، عَن النَّبِي أَو غَيره، من قَوْله: «فى قبل، أَو لقبل عدتهن» قِرَاءَة أُخْرَى، أَو تَفْسِيرا-: مؤول فى نظر أَصْحَاب المذهبين جَمِيعًا، على معنى: فطلقوهن مستقبلات عدتهن.
إِلَّا أَن الشَّافِعِي قد فهم بِحَق: أَن الِاسْتِقْبَال على الْفَوْر، لَا على التَّرَاخِي وَأَن ذَلِك لَا يتَحَقَّق إِلَّا: إِذا كَانَت الْعدة الطُّهْر.
لِأَنَّهُ وجد: أَن الشَّارِع قد نهى عَن الطَّلَاق فى الْحيض، وَأقرهُ فى الطُّهْر. وَوجد:
أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد: على أَن الْحيض الَّذِي وَقع فِيهِ الطَّلَاق، لَا يحْسب من الْعدة. وَأدْركَ:
أَن النهى إِنَّمَا هُوَ لمنع ضَرَر طول الِانْتِظَار، عَن الْمَرْأَة.
فَلَو لم يكن الِاسْتِقْبَال على الْفَوْر-: بِأَن كَانَ على التَّرَاخِي.-: للَزِمَ (أَولا) : عدم النهى عَن الطَّلَاق فى الْحيض لكَون الْمُطلقَة فِيهِ: مُسْتَقْبلَة عدتهَا (أَيْضا) على التَّرَاخِي.
وللزم (ثَانِيًا) : أَن يتَحَقَّق فى الطَّلَاق السنى، الْمَعْنى: الَّذِي من أَجله حصل النهى فى الطَّلَاق البدعى. وَلَيْسَ بمعقول: أَن ينْهَى الشَّارِع عَنهُ- فى حَالَة- لعِلَّة خَاصَّة، ثمَّ يُجِيزهُ فى حَالَة أُخْرَى، مَعَ وجودهَا.
وعَلى هَذَا، فتفيد الْآيَة: أَن الْأَقْرَاء هى: الْأَطْهَار وَيكون مَعْنَاهَا: فطلقوهن فى وَقت عدتهن، أَي: فى الْوَقْت الَّذِي يشرعن فِيهِ فى الْعدة، ويستقبلها فَوْرًا عقب صُدُور الطَّلَاق. وَهَذَا لَا يكون إِلَّا: إِذا كَانَت الْعدة نفس الطُّهْر.
وَلَا يُعَكر على هَذَا: أَن الشَّافِعِي قد ذهب: إِلَى أَن طَلَاق الْحَائِض يَقع فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ:
اسْتِقْبَال الْعدة فَوْرًا.
لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ: بِالنّظرِ إِلَى معنى الْآيَة الْكَرِيمَة، وبالنظر إِلَى الطَّلَاق الَّذِي لم يتَعَلَّق نهى بِهِ. وَكَون الِاسْتِقْبَال فَوْرًا يتَخَلَّف فى طَلَاق الْحَائِض، إِنَّمَا هُوَ: لِأَن الزَّوْج قد أَسَاءَ فارتكب الْمنْهِي عَنهُ.
ولكى تتأكد مِمَّا ذكرنَا، وتطمئن إِلَيْهِ- يكفى: أَن تتأمل قَول الشَّافِعِي الَّذِي صدرنا بِهِ الْكَلَام وَترجع إِلَى مَا ذكره فى الْأُم (ج ٥ ص ١٦٢- ١٦٣ و١٩١)، وَمَا ذكره كل: من الْخطابِيّ فى معالم السّنَن (ج ٣ ص ٢٣١- ٢٣٢)، وَالنَّوَوِيّ فى شرح مُسلم (ج ١٠ ص ٦٢ و٦٧- ٦٨)، وَابْن حجر فى الْفَتْح (ج ٩ ص ٢٧٦ و٢٨١ و٣٨٦)، والزرقانى فى شرح الْمُوَطَّأ (ج ٣ ص ٢٠٢ و٢١٨).
وَبِذَلِك، يتَبَيَّن: أَن مَا ذكره الشَّيْخ شَاكر فى تَعْلِيقه على الرسَالَة (ص ٥٦٧- ٥٦٨) :
كَلَام تافه لَا يعْتد بِهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ. وَأَنه لم يصدر عَن إِدْرَاك صَحِيح لرَأى الشَّافِعِي وَمن إِلَيْهِ فى الْآيَة وَإِنَّمَا صدر عَن تسرع فى فهمه، وتقليد لِابْنِ الْقيم وَغَيره. وَبِهِمَا أَخطَأ من أَخطَأ، وأغفل من أغفل.
أما كَلَامه (ص ٥٦٩) عَن الِاكْتِفَاء فى الْعدة بِبَقِيَّة الطُّهْر، ومحاولته إِلْزَام الْقَائِلين بِهِ:
أَن يكتفوا بِبَقِيَّة الشَّهْر، لمن تَعْتَد بِالْأَشْهرِ.-: فناشىء عَن تأثره بِكَلَام ابْن رشد، وَعدم إِدْرَاكه الْفرق الْوَاضِح بَين الشَّهْر وَالطُّهْر وَأَن الشَّهْر: منضبط محدد، لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص بِخِلَاف الطُّهْر: الَّذِي يُطلق لُغَة على كل الزَّمن الْخَالِي من الْحيض، وعَلى بعضه وَلَو لَحْظَة: وَإِن زعم ابْن الْقيم فى زَاد الْمعَاد (ج ٤ ص ١٨٦) : أَنه غير مَعْقُول إِذْ يكفى فى الْقَضَاء على زَعمه هَذَا، مَا ذكره النَّوَوِيّ فى شرح مُسلم (ج ١٠ ص ٦٣) فَرَاجعه. على أَن فى ذَلِك اللَّازِم، خلافًا وتفصيلا مَشْهُورا بَين الْمُتَحَيِّرَة وَغَيرهَا: كَمَا فى شرح الْمحلى للمنهاج (ج ٤ ص ٤١- ٤٢).
وَأما كَلَامه (ص ٥٧٠- ٥٧١) عَن عدَّة الْأمة-: فَمن الضعْف الْوَاضِح، وَالْخَطَأ الفاضح: بِحَيْثُ لَا يسْتَحق الرَّد عَلَيْهِ ويكفى أَنه اشْتَمَل على مَا ينْقضه ويبطله.