" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ "(يونس: ١٥)، وقوله تعالى:
" وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ "(الزخرف: ٣٠- ٣١ )
فأخبر تعالى عنهم: أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل القرآن، ووصفوه بأكاذيب الأولين، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم؛ كالأضاحيك والأعاجيب. وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن مرة، أو تبديله. وأنهم قالوا مرة، لما جاءهم: هذا سحر، وكفروا به، ثم قالوا: لولا نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم؛ كالوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد الحثُّ عليه.
رابعًا- وقد احتج الله تعالى على صحة هذا القرآن، وأنه ليس بمفترى، بأن أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجيب الكافرين عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، ويبطل بذلك دعواهم بافترائه، فقال سبحانه:
" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: ٣٨)
ثم قال سبحانه:
" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "(هود: ١٣)
فتحداهم أن يأتوا " بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ". ثم تحداهم أن يأتوا" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "
وطلب منهم في الموضعين أن يستعينوا بمن أمكنهم الاستعانة به من المخلوقين من دون الله، إن كانوا صادقين، فقال سبحانه:
" وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "
ومن المحال أن يأتيَ واحد منهم بكلام، يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه، ثم يطالبهم أن يأتوا بسورة مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، ثم يعجزون جميعهم عن ذلك.
ومن الواضح أن الآيتين السابقتين قد وردتا على نمط واحد من الأسلوب. والفرق الوحيد بينهما هو أن التحدي في الأولى أتى" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "، وفي الآية الثانية أتى" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ". وما عدا ذلك فكل ما فيهما مماثل للآخر.
وأول ما يلفت النظر- هنا- هو تصدُّر الآيتين الكريمتين بـ" أَمْ "، وهي للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجبي. والغرض منه إبطال دعواهم أن يكون هذا القرآن مفترًى من دون الله جل وعلا.
و" أَمْ " هذه هي التي تتقدر عند النحاة بـ( همزة الإنكار ) و( بل ). وعليه يكون تقدير الكلام: بل، أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء ؟ وقيل: إنكار لقولهم واستبعاد.
والافتراء معناه: الكذب. وأكثر استعماله في اللغة في الإفساد؛ وكذلك استعمل في القرآن في الشرك، والظلم، والكذب عن عمد؛ نحو قوله تعالى:
" وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً "(النساء: ٤٨)
وقوله تعالى:
" انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً "(النساء: ٥٠)
وواضح أن المراد بقوله تعالى في آية هود:
" فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "(هود: ١٣)
أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن مفتريات. ويدل عليه أن ضمير الغائب في قوله تعالى:" افْتَرَاهُ " يعود على قوله:" بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ " من الآية السابقة، وهي قوله تعالى:
" فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ "(هود: ١٢)
أما قوله تعالى في آية يونس:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: ٣٨)
فالمراد به: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن مثل القرآن على وجه الافتراء، لا سورة واحدة مثله. والدليل على ذلك:
١- أن الضمير في:" مِثْلِهِ " يعود على:" هَذَا الْقُرْآَن " في الآية السابقة، لهذه الآية على أرجح الأقوال، وهي قوله تعالى:
" وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ "(يونس: ٣٧)
٢- أن من معاني السُّورة في اللغة: المنزلة الرفيعة؛ ومنه قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب
٣- أن السُّورة- على ما قيل- هي كلٌّ متكامل، وتشتمل على ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب، وغير ذلك، وتطلق في الأكثر على السورة الواحدة من القرآن. وقد تطلق، ويراد بها القرآن كله- كما في هذه الآية الكريمة- ومثله في ذلك لفظ ( قرآن )، فإنه يطلق، ويراد به القرآن كله، وقد يراد به بعضه.