٤- أنَّ آية يونس، التي تتحدى البشر أن يأتوا " بِسُورَةٍ مِثْلِهِ " يأتي بعدها مباشرة قول الله تعالى:
" بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ "(يونس: ٣٩)
أي: كذبوا بالقرآن؛ لأنهم لم يحيطوا بعلمه، الذي أحاط بكل شيء.
ولفظ ( سورة ) يتضمن معنى: السُّمو والرفعة، ومعنى: الإحاطة. ومعنى الإحاطة يتضمن: الاشتمال، والتمييز، وتحديد المعالم.
٥- قرأ عمرو بن قائد:" بسورةِ مثلِهِ " على الإضافة. أي: بكلام مثله. أي: مثل القرآن.
٦- جاء في كتاب معاني القرآن:” وقيل: المعنى: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. والسورة قرآن، فكنَّى عنها بالتذكير على المعنى. ولو كان على اللفظ، لقيل مثلها.
٧- أنَّ لفظ ( سورة ) لم يذكر في أول خمسين سورة، نُزِّلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد جاء التحدي " بِسُورَةٍ مِثْلِهِ " في سورة يونس، والتي هي السورة الواحدة والخمسين في ترتيب النزول.
ثم جاء التحدي " بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ " في سورة هود، والتي هي السّورة الثانية والخمسين في ترتيب النزول. وهذا يعني أنّ العرب، في زمن الوحي، قد أَلِفَت معنى لفظ القرآن قبل أن تألف معنى لفظ السورة. وهناك الكثير من السُّور القصار، التي نزلت قبل أن يُسَمِّيَ القرآنُ الكريم كلَّ قطعة متكاملة باسم: سورة.
خامسًا- ثم احتج سبحانه على صحة القرآن، وأنه ليس بمتقوَّل، فقال:
" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ "(الطور: ٣٤)
والفاء هنا للتعقيب. أي: إذا كان القرآن متقوَّلاً كما يدعون، فيجب عليهم أن يأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين.
وقال تعالى هنا:" فَلْيَأْتُوا "، بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر، وبدون وساطة:" قُلْ "، خلافًا للآيتين السابقتين؛ إذ قال فيهما:" قُلْ فَأْتُوا ". والسِّرُّ في ذلك:
أولاً: أن التحدي بقوله تعالى:" فَلْيَأْتُوا " تحدٍّ غير مباشر يعمُّ كلَّ من نسب إلى النبي ﷺ تقوَّل القرآن تارة، وافتراءه على ربه جل وعلا تارة أخرى. أما التحدي بقوله تعالى:" قُلْ فَأْتُوا " فهو تحد مباشر، ويخصُّ كل من نسب إلى النبي ﷺ افتراء القرآن.
وثانيًا: أن التعبير بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر" فَلْيَأْتُوا " يفيد تجدد التحدي واستمراره دون انقطاع، بخلاف صيغة الأمر" فَأْتُوا "؛ فإن التعبير بها يفيد احتمال وقوع الفعل مرة واحدة، ووقوعه أكثر من ذلك.
ونحو ذلك قوله تعالى:
" قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَا "(إبراهيم: ٣١)
أي: يداوموا، ويواظبوا على ذلك دون انقطاع. والتقدير على أحد الأقوال: قل لعبادي الذين آمنوا، ليقيموا الصلاة، ولينفقوا مما رزقناهم.
سادسًا- وواضح مما تقدم أن المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:
" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: ٨٨)، وقوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: ٢٣)
هي غيرها في قوله تعالى:
" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: ٣٧)، وقوله تعالى:
" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ "(هود: ١٣)، وقوله تعالى:
" بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "(الطور: ٣٤)
فتلك يراد بها المثل الموجود للقرآن في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، لا المثل المفترض، وأما هذه فالمراد بها أن يأتوا: بكلام أو قرآن مثل القرآن، وبعشر سور مفتريات مثل القرآن، وبحديث متقوَّل مثل القرآن. وهذا المثل لا وجود له في واقع الناس، لا على سبيل الافتراض، ولا على سبيل غيره؛ لأن الكلام هو كلام الله جل وعلا، وكلام الله لا يماثله كلام البشر، لاختلافه معه في الحقيقة والماهيَّة والجنس؛ كما أن ذات الله تعالى لا تماثلها ذات من ذوات البشر، للسبب ذاته..
ولكن الذين تحدثوا عن المثلية في آيات التحدي، لم يفرقوا بين مثلية، وأخرى، فهي مثلية واحدة عندهم، ومن ثمَّ زعموا أنها مثلية في البلاغة، أو الفصاحة، أو النظم، أو غير ذلك..
ونعود إلى هذه الآيات الثلاثة، فنجد أن المفسرين قد اتفقوا على أن المراد بالمثلية في آية هود:
" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "
مثلية في البلاغة والفصاحة وحسن النظم.
أما المراد بالمثلية في آية يونس:" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
فاختلفوا فيها- كما اختلفوا في غيرها- على أقوال:
أحدها: أنها مثلية في كثرة العلوم، والأحكام، والوعد والوعيد والإخبار عن الغيب.
والثاني: أنها مثلية في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم.
والثالث: أنها مثلية تامة في غيوب القرآن، وعلومه، ونظمه، ووعده ووعيده.
قال الثعالبي عند تفسير آية يونس" بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ":” والتحدي في هذه الآية- عند الجمهور- وقع بجهتي الإعجاز، اللتين في القرآن: إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة. والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى، ولما يستقبل. وحين تحداهم بعشر مفتريات؛ إنما تحداهم بالنظم وحده “.
أما ابن عاشور فقال:” وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن. أي: تشابهه في البلاغة وحسن النظم “.