ثم قال:” فالمماثلة في قوله:" مِثْلِهِ " هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته، لا في سداد معانيه. قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه في فصاحته بقطع النظر عن علوِّ معانيه، وتصديق بعضه بعضًا “.
وكذلك اختلفوا في المراد بالمثلية في قوله تعالى في الطور:" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "
فقال أبو حيان:” أي: مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم “.
وقال ابن عاشور:” ومعنى المثلية في قوله:" مِثْلِهِ ": المثلية في فصاحته وبلاغته “.
وذهب الفخر الرازي إلى أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته، لا باشتماله على المغيبات، وكثرة العلوم؛ إذ لو كان كذلك، لم يكن لقوله سبحانه:" مُفْتَرَيَاتٍ " معنى. أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة، صح ذلك؛ لأن فصاحة الكلام تظهر، إن صدقًا، وإن كذبًا.
قال الألوسي:” واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق
ولهذا فسر الألوسي المثلية هنا بقوله:” مماثل للقرآن في النعوت، التي استقل بها من حيث النظم، ومن حيث المعنى “.
إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا طائل من الجري وراءها وتتبعها؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا، ولا توضح معنى. وإذا اختلفت الأقوال، لم يكن بعضها أولى من بعض، وبخاصة إذا كانت تقوم على أساس هشٍّ، وفهم غير صحيح.
وهنا أذكر بما نقلته في مقالي " لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " عن صاحب كتاب( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ) من قوله:
” لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي " بِمِثْلِهِ " دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد " بِمِثْلِهِ " في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ “.
وأضاف قائلاً:
” هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ “.
وقلت تعقيبًا على ذلك:” هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية “.
وأقول هنا: هذه المثلية، التي تحدَّى الله تعالى بها الناس جميعهم، ولم يستطع أحد منهم أن يقاوم ذلك التحدي إما أن يكون المراد منها معلومًا. أو يكون مجهولاً. والثاني باطل حكمًا؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يتحدى خلقه بشيء لا يعلمون عنه شيئًا، فلم يبق إلا أن يكون المراد من هذه المثلية معلومًا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان المراد من هذه المثلية معلومًا، فلمَ اختلف المفسرون، وما زالوا يختلفون في تحديد المراد منها ؟
هذا ما ينبغي الإجابة عنه.. وسأكتفي هنا بأن أذكر قول الخطابي، الذي ردَّ به على الجمهور، الذين يرون أن الله تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن تماثله في البلاغة، فقال في مقدمة كتابه ( إعجاز القرآن ) تعقيبًا على القول السابق بعد أن ردَّ غيره من الأقوال:” وهذا لا يقنِع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحيل به على إبهام “.
وأعود بعد هذا إلى الآيات الثلاثة السابقة، فأقول: من تدبَّر هذه الآيات حق التدبُّر، وجد أن المراد بقوله تعالى:" قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
كما سبق أن ذكرنا: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن، من غير تحديد الجهة التي يأتون به منها، يكون مماثلاً للقرآن في حقيقة وماهيَّته، لا في صفاته، وإن كان مفترى على حد زعمهم. فإن كانت لديهم القدرة على ذلك، استطاعوا أن يثبتوا أن هذا القرآن مفترى، وإلا فهو كما وصفه الله تعالى بقوله في الآية، التي سبقت هذه الآية، وهي قوله تعالى:
" وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "(يونس: ٣٧)
ولما ظهر عجزهم عن ذلك طالبهم الله تعالى أن يأتوا:" بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ "
أي: مختلقات، إن صح عندهم أن محمدًا ﷺ اختلقه من عنده، وكذب به على ربه. و" مُفْتَرَيَاتٍ " لـ" عَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ "، وكان حقها أن تتقدم على " مِثْلِهِ "، فيقال: بعشر سور مفتريات مثله. ولكنها أخرِّرت عن " مِثْلِهِ "؛ لأن المثل هو المقصود بالتكليف، وأنه لو قدِّمت عليه، لتوهم أن القرآن مفترى، تنزه عن ذلك.
ولما ادعوا أن محمدًا ﷺ تقوَّل القرآن على ربه جل وعلا، قال تعالى:" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ "، ولم يقل:" فَلْيَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "
لأن لفظ ( الحديث ) يطلق على الكلام تارة، وعلى القصة والخبر تارة أخرى. وقد يكون ذلك صحيحًا، وقد يكون متقوَّلاً، فناسب المجيء به- هنا- ما تقدم من قوله تعالى:" تَقَوَّلَهُ "؛ لأن التقول- على ما تقدم- هو الكذب المخصوص.