بقي أن نشير إلى وجه الإعجاز في قوله تعالى:" فَأْتُوا "، وقوله:" فَلْيَأْتُواْ "، وكان يمكن أن يقال:﴿ فقولوا ﴾،﴿ فليقولوا ﴾. أو:﴿ فجيئوا ﴾،﴿ فليجيئوا ﴾، أو نحو ذلك من صيغ الطلب؛ ولكن جاء التعبير عن ذلك بالإتيان؛ لأن الإتيان- كما سبق أن ذكرت- يعني المجيء بالشيء، وجلبه بسهولة، إما بالاسترفاد من الغير، أو بالاختراع من الجالب، وليس كذلك القول.
ولهذا طلب الله تعالى منهم في آيتي ( يونس وهود ) أن يستعينوا بمن استطاعوا من خلق الله، لنصرتهم وإعانتهم على الإتيان بما تحداهم به، فقال سبحانه:" وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ
والدعاء هنا هو طلب الغوث. إي: استغيثوا بمن استطعتم.
أما قوله تعالى:" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "، " إِن كَانُواْ صَادِقِينَ "
فالمراد به: إن كانوا صادقين في قولهم:" افْتَرَاهُ " و" تَقَوَّلَهُ "؛ وذلك راجع إلى ما سبق من قولهم: إنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه شاعر، وإنه مفترى، ومتقوِّل. ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك، لهان عليهم الإتيان بكلام مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بحديث مثله متقوَّل.
وأكرر، فأقول: مثله في حقيقته وماهيَّته، لا في صفاته. وحقيقته وماهيته، لا يعلم كنهها أحد؛ لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا مغاير لكلام البشر في الحقيقة والماهية والجنس، كما أن ذاته الشريفة مغايرة لذوات البشر في الحقيقة والماهية والجنس. ومن هنا يأتي عجزهم عن الإتيان بشيء مما طلب منهم، قليلاً كان، أو كثيرًا. ولما ظهر عجزهم، علم أنهم كاذبون، وأن هذا القرآن الكريم:" تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
" وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ "
والحمد لله رب العالمين !
بقلم الأستاذ الباحث
محمد إسماعيل عتوك
=================
الإعجاز البلاغي في استخدام الفعل المبني للمجهول
َتَأْلِيفُ د/ مُحَمَّد السَّيِّد مُوسَى
أستاذ البلاغة والأدب كلية الآداب- جامعة المنصورة

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلي آله وأصحابه والتابعين لهم بالإحسان إلي يوم الدين.
وبعد، فاٍن من أسرار البلاغة العربية وذوقها أن تساير الأساليب المختلفة وتتماشى مع المواقف والسياقات حسبما يتطلب المقام اللغوي والنفسي، " والبلاغة الحق - إضافة إلي كونها الكلام المكتوب أو المسموع، هي التي تقدر الظروف والمواقف، وتعطي كل ذي حق حقه، سواء أكانت شعرًا أم نثرًا، مقالا أم قصة، مسرحية أم حكاية، مديحا أم هجاء، غزلا أم استعطافا" [١]
والقرآن الكريم له نظمه العجيب وتركيبه الفريد الذي يأخذ بالألباب ويسوق إليه أعناق البيان " فكان من إعجاز القرآن أنه أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلا علي ما بينها من تناسق هندسي، وتجاذب روحي، احكمه الحكيم العليم، وقدره اللطيف الخبير، في القرآن الكريم صور كثيرة من هذا النظم الذي يعتمد علي تجاذب الكلمات وتعانق الآيات، فيكون ذلك رباطها الذي يمسك بها ويشد بعضها إلي بعض في وثاقة وإحكام [٢].
ومن المعلوم أن سياقات الكلام تختلف باختلاف المقام، فتختلف الألفاظ والجمل تبعا لذلك، وما يصلح من لفظ في سياق لا يصلح في غيره، ولا يؤدي نفس المعنى والدلالة.
وكذا الشأن في استدعاء النص للجملة الاسمية أوالفعلية التي تدل علي الحدث وتشتمل علي دلالتها وفاعلها الذي قد يحذف من الجملة لدواع يقتضيها المقام: " بعضها لفظي، كالرغبة في الاختصار في مثل: لما فاز السّباق كوفئ، أي كافأت الحكومة السّباق، مثلا، وكالمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة في السجع، نحو: من حَسُن عملُه عُرف فضلُه، وكالضرورة الشعرية، وبعضها معنوي، كالجهل بالفاعل، وكالخوف منه، أوعليه وما يصلح لكل واحد من الثلاثة قولنا: قُتِلَ فلان، من غير ذكر اسم الفاعل وكإبهامه، أوتعظيمه بعدم ذكر اسمه علي الألسنة صيانة له، أوتحقيره بإهماله، وكعدم تعلق الغرض بذكره، حين يكون الغرض المهم هوالفعل، وكشيوعه ومعرفته في مثل: جُبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، أي: جبلها الله وخلقها ".[٣]
ومقامات الكلام وسياقاته هي التي تحمل دلالة تلك الأغراض السابقة التي تختلف من موضع لآخر، فليس الغرض متعلقا أو دالا من حيث لفظته المفردة، ولكنه يأتي من النظر في التركيب وتعلق الألفاظ ببعضها، وتفسير هذا كما يذكر عبد القاهر الجرجاني " أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد " [٤] من قوله: تنقل في خلقي سؤدد وفي دهر من قوله: فلو إذ بنا دهر [٥] فانه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شئ، ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله وأنكر صاحب، ﴿لم يقل: أنكرت صاحبا﴾، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته من استحسانك ههنا؛ بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، أو بحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم " [٦].


الصفحة التالية
Icon