أما" الْقَارِعَةُ " فهي التي تقرع الناس بالأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم والكواكب بالطمس والانكدار.
ومذهب أهل التحقيق من المفسرين أن قوله تعالى:" الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ "أشدُّ هولاً من قوله تعالى:" الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ "؛ لأن النازل آخرًا لا بد، وأن يكون أبلغ؛ لأن المقصود منه زيادة التنبيه. وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى.
وأما بالنظر إلى المعنى فـ" الْحَاقَّةُ " أشدُّ لكونها راجعة إلى معنى: العدل، و" الْقَارِعَةُ "أشد لكونها تهجم على القلوب بالأمر الهائل.
إذا عرفت هذا، فتأمل قوله تعالى:
" الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ "
كيف وضعت" الْقَارِعَةُ " في الآية الرابعة موضع ضمير" الْحَاقَّة "؛ إذ كان ينبغي أن يقال:" كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا ". وإنما أتى سبحانه وتعالى- هنا- بلفظ " الْقَارِعَةُ "؛ لتدل على معنى القرع في " الْحَاقَّة "، زيادة في وصف شدَّتها وهولها.
أما قوله تعالى:" مَا الْقَارِعَةُ "؟ فهو استفهام يراد به التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين.
والأصل فيه:" الْقَارِعَةُ *مَا هِيَ "؟ أي: أيُّ شيء عظيم مَهول هي؟ فوضع الاسم الظاهر موضع المضمَر تفخيمًا لشأنها، وتفظيعًا لهولها. ونحو ذلك قولك: زيد، ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره؛ كأنه شيء خَفِيَ عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره؛ كما تقول: الغول، ما الغول ؟ والعنقاء، ما العنقاء ؟ تريد: أيُّ شيء من الأشياء هي ؟
ولهذا قال السكاكي:"يُسأل بـ( ما ) عن الجنس. تقول: ما عندك ؟ أي: أيُّ الأشياء عندك ؟ وجوابه: إنسان، فرس، كتاب. وكذلك تقول: ما الكلمة ؟ وما الكلام ؟ وفي التنزيل:" فَمَا خَطْبُكُمْ "(الحجر: ٥٧، والذاريات: ٣١)؟
أو يُسْأل بها عن الوصف، تقول: تقول: ما زيد ؟ وما عمرو ؟ وجوابه: كريم، أو فاضل، ونحوهما ".
وقال الفخر الرازي:"لفظة " مَا " وضعت لطلب ماهيَّات الأشياء وحقائقها. تقول: ما الملك ؟ وما الروح ؟ وما الجن ؟ والمراد: طلب ماهيَّاتها، وشرح حقائقها. وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً. ثم إن الشيء العظيم، الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته، ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه، يبقى مجهولاً؛ فحصل بين الشيء المطلوب بلفظة " مَا "، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه. والمشابهة إحدى أسباب المجاز، فبهذا جُعِل " مَا " دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب، وعلو رتبته ".
ولمَّا كان هول الشيء وعظمه يستلزم تساؤل الناس عنه، أتبعه الله تعالى بقوله:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ " ؟
زيادة في التهويل، ومبالغة في التعظيم.
والخطاب فيه لغير معين، والمعنى: أيُّ شيء أدراك أيها السامع: ما القارعة؟ ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكاريًا. أي: لا دراية لك بكنهها، ومدى عظمها وشدتها. يعني: أنها في العظم والشدة، بحيث لا يبلغه دراية أحد، ولا وهمه. وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم، فلا يتسنى الإعلام عنها. ومنه يعلم أن الاستفهام- هنا- كُنِّيَ به عن لازمه من أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دار، ولا تبلغ كنهها الأفكار والأوهام والتصورات؛ لأنها أكبر من أن يحيط بها الإدراك، ويبلغ درايتها الوهم، ويلمُّ بها التصور !
والدراية- كما قال الراغب- هي المعرفة المُدْرَكة بضرب من الختل؛ ولهذا لا تستعمل الدراية في الله تعالى. وأما قول الشاعر:
لاهُمَّ لا أدري وأنت الداري
يريد: اللهم أنت الداري، فهو من تعجْرُف أجلاف العرب.
وأصل( درى ) الثلاثي أن يتعدى بالباء، وقد تحذف على قلَّة. يقال: دريت به، ودريته. فإذا دخلت عليه همزة التعدية تعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بالباء. يقال: أدريت فلانًا بالأمر، ومنه قوله تعالى:" وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ "(يونس: ١٦)
وقد يتعدَّى إلى ثلاثة مفاعيل، فيكون من باب: أعلم، وأرى. تقول: أدريت فلانًا الأمر سهلاً؛ كما تقول مثله في: أعلمته، وأريته. وقد يعلق عن المفعول الثاني والثالث بهمزة الإنكار، أو بـ( ما ) المتضمنة لها. فمن الأول قول زهير بن أبي سُلمَى:
وما أدري وسوف إخال أدري **أقومٌ آل حصن أم نساء
ومن الثاني قوله تعالى:" مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ "(الشورى: ٥٢)
وتركيب:( مَا أدراك ما كذا ) ؟ مما جرى مجرى المثل، فلا يغير عن هذا اللفظ، وهو مركَّب من ( ما ) الاستفهامية، وفعل ( أدرى ) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل، وقد علق عن المفعولين الثاني والثالث بـ( ما ) الاستفهامية الثانية. وكاف الخطاب فيه- كما ذكرنا- خطاب لغير معين؛ فلذلك إذا خوطب به غير المفرد المذكر، فلا يقترن بضمير تثنية، أو جمع، أو تأنيث.
واستعمال ( ما أدراك ما كذا ) ؟ غير استعمال ( ما يدريك ) ؟ في نحو قوله تعالى:
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ "(الشورى: ١٧)


الصفحة التالية
Icon