" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً "(الأحزاب: ٦٣)
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى "(عبس: ٣- ٤)
روي عن سفيان بن عيينة:” كل شيء في القرآن " وَمَا أَدْرَاكَ "؟ فقد أُخبِر الرسول به، وكل شيء فيه " وَمَا يُدْرِيكَ "؟ لم يُخبَر به “.
وقد روي نحو هذا أيضًا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وعن يحيى بن سلاّم. فإن صح هذا المروي، فإن مرادهم أن مفعول " مَا أَدْرَاكَ "؟ محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل، وأن مفعول" مَا يُدْرِيكَ " ؟ غير محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للإِنكار المجرَّد، وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب الأصفهاني:”كل موضع ذُكر في القرآن" وَمَا أَدْرَاكَ "؟ فقد عُقِّب ببيانه؛ نحو:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ "(القارعة: ١٠- ١١)
"وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ "(القدر: ٢- ٣)
" قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ "(يونس: ١٦).
وكل موضع ذكر فيه" مَا يُدْرِيكَ "؟ لم يُعقِّبْه بذلك؛ نحو:
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى "(عبس: ٣)
" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ "(الشورى: ١٧) “.
ثانيًا- قوله تعالى:" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ "(٤- ٥) جواب لقوله تعالى:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ "(٣)
وكان حق هذا الجواب أن يكون بماهيَّة القارعة وحقيقتها، لا بما يكون فيها من أحوالها. ولكن عدِل عن الأول إلى هذا؛ لأن ماهيتها وحقيقتها- كما أسلفنا- أكبر من أن يحيط بها الإدراك، ويبلغ درايتها الوهم، ويلم بحقيقتها التصور !
وقد بين الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حالاً من أحوال القارعة، وبين بعض أحوالها الأخرى في سورة( الواقعة ) بأنها خافضة رافعة. وفي( الحاقة ) بما أصاب ثمود وعاد وحلَّ بهم بسبب تكذيبهم بالقارعة. وفي( الطامة والصاخة ) ينظر المرء ما قدَّمت يداه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى مع كل حالة من هذه الحالات الحال الذي يناسبها. والقارعة من القرع؛ وهو- كما أسلفنا- ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت، فناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش.
و" الفَرَاشُ "هو فرخ الجَراد، حين يخرُج من بيضه من الأرض. وقد يطلق لفظه على ما يطير من الحشرات، ويتساقط على النار ليْلاً. وهو إطلاق آخر، لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية به هنا. وقال الفرَّاء:”هو غوغاء الجراد، الذي ينتشر في الأرض، ويركب بعضه بعضًا من الهول “. وقال صاحب التأويلات:” اختلفوا في تأويله على وجوه؛ لكن كلها ترجع إلى معنى واحد، وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم “.
و" الْمَبْثُوث "هو المتفرق على وجه الأرض في كل الجهات. ومن أمثال العرب قولهم:( أطيش من فراشة ) و( أضعف من فراشة ) و( وأذل وأجهل من فراشة ).
وقال تعالى هنا:" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ "
فشبه الناس يوم البعث بالفراش المبثوث. وقال في موضع آخر:
" يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ "(القمر: ٧)
فشبههم بالجراد المنتشر. وقد سبق أن ذكرنا إلى أن الفراش هو فرخ الجراد، أو هو غوغاء الجراد، فما وجه التشبيه في كل منهما ؟
أما وجه تشبيههم بالجراد فقيل: الكثرة، والتتابع. وأما وجه التشبيه بالفراش فقيل: شبِّه الناس بالفراش المتفرق المتطاير في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والمجيء والذهاب على غير نظام، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر؛ لأن الفراش إذا ثار، لم يتَّجه لجهة واحدة؛ بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى.
وليت الذين يتحدثون عن كيفية ابتداء الخلق أن يقرنوا بين هذه الآية:
" يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ "(القمر: ٧)، وبين قوله تعالى:
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ "(الروم: ٢٠)
لعلهم يدركون سرَّ تخصيص لفظ البشر بالذكر دون لفظ الناس، وسرَّ تشبيههم بالجراد في الانتشار يوم خلقهم من تراب، ويوم بعثهم، ثم يتذكرون قول الله تعالى:
" كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ "(الأعراف: ٢٩)!
و" الْعِهْنُ "هو الصوف المصبوغ باللون الأحمر، وقيل هو المصبوغ ألوانًا. وفي قراءة ابن مسعود- رضي الله عنه-:" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْصُّوفِ الْمَنْفُوشِ ". قال زهير بن أبي سُلمَى:
كأنَّ فُتات العِهن في كل منزلٍ ** نَزَلْنَ به حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِِ
والفَنَا بالقصر: حَبٌّ في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر. والعهنة: شجرة تنبت بالبادية لها ورد أحمر.
و" الْمَنْفُوشِ "هو المفرَّق، بعض أجزائه عن بعض؛ ليغزَل، أو تحشَى به الحشايا، فعندما يضرب بالعصا، تتطاير أجزاؤه.
ووجه التشبيه بين الجبال، والعهن المنفوش: أن من الجبال؛ كما قال تعالى:


الصفحة التالية
Icon