" وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ "(الحديد: ١٤)
ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب، والمؤمنين، فقال:
" وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ "(المدّثر: ٣١)
وقوله تعالى:" رَيْبَ الْمَنُونِ "(الطور: ٣٠)، سمَّاه رَيْبًا، لا أنه مُشكَّكٌ في كونه؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت حصوله. فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون، من جهة وقته، لا من جهة كونه.
وقال تعالى هنا:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "(البقرة: ٢٣)، وقال في يونس:
" إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي"(يونس: ١٠٤)
فاستعمل الرَّيْب في الأول، والشَّكَّ في الثاني. والسرُّ في ذلك أن الشَّكَّ هو تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء. أماالرَّيْبُ فهو شَكٌّ بتهمة، وهو من قولهم: رَابَ: حقَّق التهمة. قال الشاعر:
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ **إنما الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون، مع شكِّهم في القرآن، يتهمون النبي ﷺ بأنه هو الذي افترى القرآن، وأعانه عليه قوم آخرون، نفى الله تعالى عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ "(البقرة: ٢)
ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله :" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "(البقرة: ٢٣)
وأما قوله تعالى:" إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي "(يونس: ١٠٤) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب، أو غيرهم ممَّن كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة، ولا ينسبه إلى الكذب والخيانة.
فإن قيل: كيف نفى سبحانه وتعالى أن يكون في القرآن رَيْبٌ، ثم خاطب المشركين بقوله:
" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "(البقرة: ٢٣) ؟
فالجواب: أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وبين نفي الرَّيب عن القرآن؛ لأن نفيَ الرَّيب يدل على نفي الماهيَّة. أي: ليس ممَّا يحلُّه الرَّيْبُ، ولا يكون فيه، ولا يدل على نفي الارتياب فيه؛ لأنه قد وقع ارتياب فيه من ناس كثيرين.
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ "، لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه. فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون، والرَّيْبُ هو الحالُّ فيهم. والحالُّ في قوله تعالى:" لاَ رَيْبَ فِيهِ "مَنفيُّ، والمحلُّ هو الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وكون الرَّيْب منفيًّا عن القرآن.
ووجهُ الإتيان بـ" فِيْ "الدالة على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب، وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف. واستعارة" فِيْ "لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب؛ كقولهم:"هو في نعمة ".
وفي قوله تعالى:" نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "التفات؛ لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ لأن قبله قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ "(البقرة: ٢١)، وقوله تعالى:
" فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ "(البقرة: ٢٢)
فلو جرى الكلام على هذا السياق، لكان نظم الكلام هكذا:" مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِه "
لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزَّل، والمنزَّل عليه ما لا يؤدِّيه ضمير غائب، لا سيَّما كونه أتى بـ﴿ نَا ﴾المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر. ونظير ذلك قوله تعالى:
" وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَمِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ "(الأنعام: ٩٩)
وفي تعدي " نَزَّلَ "بـ" عَلَى "إشارة إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه، وتمكُّنه منه، وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف" إِلَى "؛ فإنها تدل على الانتهاء والوصول؛ كما في قوله تعالى:
" وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ "(الأنعام: ١١١)
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة، وكانت" إِنْ " الشرطية؛ إنما تدخل على المُمْكن، أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُ وقوعه، ادَّعى بعضهم أنَّ" إِنْ " هنا معناها:" إِذَا "؛ لأن" إِذَا " تفيد مضيَّ ما أضيفت إليه. ومذهب المحققين أنَّ " إِنْ " لا تكون بمعنى:" إِذَا ". والذي قالوه: إن الواقع- ولا بد- يعلق بـ" إِذَا ". وأما ما يجوز أن يقع، وأن لا يقع، فهو الذي يعلق بـ" إِنْ "، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع.
وقوله تعالى:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "أمرٌ من الإتيان، وهو المجيء بسهولة، كيفما كان. يقال: أتى بالشيء من مكان كذا إلى مكان كذا، إذا جاء به بسهولة ويسر. وهذا لا يقدر عليه إلا من آتاه الله تعالى بسطة في الجسم، أو العقل والعلم. تأمل قوله تعالى:
" قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ*قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ "(النمل: ٣٩- ٤٠ )


الصفحة التالية
Icon