كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب، وهو رجل من أهل الحكمة، اقتدر على الإتيان بعرش بلقيس، وتغلب على العفريت، مع ما فيه من قوة وشدة، بقوة العلم !
وصيغة الأمر" فَأْتُوا "للتهكم، ومذهب جمهور المفسرين أنها للتعجيز؛ لأن المراد بها ليس طلب ذلك منهم، بل المراد بها إظهار عجزهم.
والمعروف أن الأمر ضد النهي، وهو طلب الفعل، وصيغته: افعل، وليفعل. وهي حقيقة في الإيجاب؛ نحو قوله تعالى:" وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ "(البقرة: ٤٣)، وقوله تعالى:
" فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ "(النساء: ١٠٢). ومثل ذلك قوله تعالى:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "- " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ "
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم مطلقًا؛ بل إنما قال عقب كل منهما:" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "
ومثل ذلك قوله تعالى:" قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(آل عمران: ٩٣)
"قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(القصص: ٤٩)
" قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "(الأحقاف: ٤)
"فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"(الصافات: ١٥٧)
" فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ "(القلم: ٤١)
وعلى هذا التقدير، ووجود ذلك الشرط، يجب الإتيان بالشيء المأمور به.
أما أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله إبراهيم- عليه السلام- لنمرود الكافر:
" فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"(البقرة: ٢٥٨)
والتنوين في " ِسُورَةٍ " للتنكير. أي: ائتوا بسورة مَّا، وهي القطعة من القرآن، التي أقلها ثلاث آيات. وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
واختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله:" مِنْ مِثْلِهِ " على قولين:
أحدهما: أنه يعود على قوله تعالى:" مِمَّا نَزَّلْنَا ". أي: على القرآن. والثاني: أنه يعود على قوله تعالى:" عَبْدِنَا ". أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب هو القول الأول، وهو قول أكثر المفسرين.
واختلفوا في المراد بالمثلية على كون الضمير عائدًا على القرآن على أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى التفسير الصحيح؛ لأنها مبنيَّة على فهم غير صحيح لمعنى المثل أولاً. وأن قائلوها لم يفرقوا بين الإتيان بالشيء، وقوله ثانيًا. وكلاهما أوضح من أن ينبَّه عليه، أو يشار إليه، وهذه الأقوال هي كما ذكرها أبو حيَّان:
الأول: من مثله، في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
الثاني: من مثله، في غيوبه من إخباره بما كان، وبما يكون.
الثالث: من مثله، في احتوائه على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحكم والمواعظ، والقصص والأمثال.
الرابع: من مثله، في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
الخامس: من مثله، أي: من كلام العرب، الذي هو من جنسه.
السادس: من مثله، في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه.
السابع: من مثله، في دوام آياته، وكثرة معجزاته.
الثامن: من مثله، أي: في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله.
ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر المِثل في قوله:" مِنْ مِثْلِهِ " هو على سبيل الفرض. ومذهب بعضهم أن المراد به: كلام العرب، الذي هو من جنسه، فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض.
ثم اختلفوا في معنى " مِنْ "، فقيل: هي للتبعيض، وهو مذهب الجمهور. وقيل: هي لبيان الجنس، وإليه ذهب الشيخ ابن عطية والمَهدَويُّ، وغيرهما. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة؛ ولهذا حذفت في قوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: ٣٨)
أما كون " مِنْ "لبيان الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز على مذهب الكوفيين، وجمهور البصريين. وليس في قوله تعالى:
" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ "(يونس: ٣٨)
دليل على زيادتها؛ لأن المراد به: فأتوا بكلام مثل القرآن. أو بقرآن مثل القرآن. وإذا كان كذلك، فلا وجه لدخول" مِنْ "فيه.
وأما قوله تعالى:" بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: ٢٣) فالمراد به: فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن، طويلة كانت، أو قصيرة؛ لأن لفظ " سُورَة " يعمُّ كل سورة في القرآن؛ لأنه نكرة في سياق الشرط، فتعمُّ؛ كما هي في سياق النفي. وعليه فإن" مِنْ " فيه لابتداء الغاية، وهي متعلقة بقوله:" فَأْتُوا ".
وأما المراد بالمثليّة هنا فهو كالمراد بها في قوله تعالى:


الصفحة التالية
Icon