" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "(الإسراء: ٨٨)
وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقالي السابق:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "، المذكور على هذا الرابط:
فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ثالثًا- لما طالب سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على تقدير حصولهم في ريب من كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك، والتظافر والتعاون والتناصر، فقال سبحانه:
" وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "
وصيغة الأمر هنا:" ادْعُوا "للإباحة، بخلاف صيغة الأمر قبلها، فتلك للتهكم بهم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك. وفسر بعضهم الدعاء- هنا- بطلب الغوث. يقال: دعا فلانًا: استغاث به. وبالاستحضار. يقال: دعا فلان فلانًا إلى الحاكم، استحضره إليه.
والشهداء في قوله تعالى:" شُهَدَاءَكُمْ "مقيَّد بلفظه، وهو جمع: شهيد، بمعنى: شاهد، من شهد، إذا حضر. وجيء به على: فعيل، لما فيه من المبالغة؛ وكأنه تعالى أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة، يصلحون أن تقام بهم الحجة. والشهيد كما قال الراغب: كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل والعقد؛ ولذا سمُّوا غيره: مُخلِفًا.
وقوله تعالى:" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "عبارة شرطية، جيء بها قيْدًا على الجملة قبلها. وفيها إثارة لحماسهم، أو تهكم بهم. والمعنى المراد: إن كنتم صادقين، فأتوا بسورة من مثله.
رابعًا- ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل سبحانه إلى إرشادهم، فقال لهم:
" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "(البقرة: ٢٤)، فذكر أمرين:
أحدهما: أنهم لم يفعلوا.
والثاني: أنهم لن يفعلوا أبدًا؛ لأنهم ليسوا بقادرين على ذلك.
ولذلك أمرهم تعالى باتقاء النار، التي أعدَّها للكافرين من أمثالهم.
وأتى بـ" إِنْ " الشرطية، التي تدل على إمكان ما بعدها وعدم إمكانه، ولم يأت بـ" إِذَا "، التي تدل على تحقق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم؛ كما يقول القائل: إن غلبتك، لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب.
و" لَنْ " لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لن يأتوا " بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "؛ وذلك مبالغة في التحدي، وإفحامًا لهم. ولو كان في طاقتهم تكذيبه، ما توانوا عنه لحظة واحدة.
وقال تعالى:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا "، ولم يقل سبحانه:" فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا "؛ لأن﴿ فَعَلَ ﴾ عامٌّ في الأفعال كلها، ويجري مجرى الكناية، فيعبَّر به عن كل فعل، إيجازًا واختصارًا، وحيث أطلق في كلام الله تعالى، فهو محمول على الوعيد الشديد؛ كقوله تعالى:
" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ "(الفيل: ١). وقوله تعالى:
" وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ "(إبراهيم: ٤٥)
وجملة " لَنْ تَفْعَلُوا " اعتراضية بين الشرط وجوابه، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى؛ لأنه لما قال تعالى:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا "، وكان معناه: نفي في المستقبل، مخرجًا ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لن يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد على عجزهم. وفي ذلك إثارة لهممهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة:
أحدهما: صحة كون المتحدَّى به معجزًا، وأنه من عند الله تعالى.
والثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا في المستقبل.
ولما كان الفعل المنفي بـ"لَمْ " في قوله تعالى:" وَلَمْ تَفْعَلُوا "مرادًا به الاستقبال، لدخول أداة الشرط عليه، حسُن تأكيده بقوله:" وَلَنْ تَفْعَلُوا ". وكان من حقه أن يؤكَّد بقول:" وَلَا تَفْعَلُون "، فيقال:"فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَا تَفْعَلُون "؛ لأن قبله في أول السورة:
" ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ "(البقرة: ٢)
و" لاَ رَيْبَ فِيهِ " نفيٌ لجنس الريب عن القرآن الكريم على سبيل الاستغراق والشمول. وهذا النفي يناسبه أن يقال:" وَلَا تَفْعَلُون "؛ كما قال تعالى في آية الإسراء :
" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "(الإسراء: ٨٨)
والسر في هذا العدول من النفي بـ" لَا " إلى النفي بـ" لَنْ " أن العرب تنفي بـ" لَنْ " ما كان ممكنًا عند المخاطب، مظنونًا أنه سيكون، فتقول: لن يكون، لما يمكن أن يكون؛ لأن " لَنْ " فيها معنى" أَنْ ". و" أَنْ " تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة. وإذا كان الأمر عندهم على الشك، لا على الظن: أيكون، أم لا يكون ؟ قالوا في النفي: لا يكون.