وقوله تعالى:" فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "
جواب للشرط. ولقائل أن يقول: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ والجواب: إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار. فاتقاء النار يوجب ترك العناد. فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله:" فَاتَّقُوا النَّارَ " قائمًا مقام قوله:﴿ فاتركوا العناد ﴾. وهذا هو الإيجاز، الذي هو أحد أبواب البلاغة. وفيه تهويل لشأن العناد؛ لإنابة اتقاء النار منابه، متبعًا ذلك بتهويل صفة النار.
و" النَّاسُ "يراد به: الخصوص ممَّن شاء الله دخولهم هذه النار، وإن كان لفظه عامًا. و" الْحِجَارَةُ "يراد بها: الأصنام. وقد جعل كلاهما وقودًا لهذه النار، فدل على أنها نار ممتازة من النيران، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة؛ وذلك يدل- أيضًا- على قوتها من وجهين:
الأول: أن سائر النيران، إذا أريد إحراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت أولاً بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه، أو إحماؤه. وهذه توقد بنفس ما تحرق.
والثاني: أنها لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر.
والوَقود، بفتح الواو، هو ما يلقى في النار لإضرامها؛ كالحطب ونحوه، كما قال تعالى:
" وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً "(الجن: ١٥)
وإنما قرن الله سبحانه الناس بالحجارة، وجعلها معهم وقودًا؛ لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصنامًا، وجعلوها لله أندادًا، وعبدوها من دونه سبحانه. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ "(الأنبياء: ٩٨- ٩٩).
وهذه الآية مفسرة لها، فقوله تعالى:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ " في معنى: " النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ "
وقوله:" حَصَبُ جَهَنَّمَ "في معنى:" وَقُودُهَا ".
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء، الذين يستشفعون بهم، ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم، وجعلها الله عذابهم، قرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغًا وإغرابًا في تحسرهم.
ونحو ذلك ما يفعله تعالى بالكافرين، الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة، فشحوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يُحمَى عليها في نار جهنم، فتُكوَى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم؛ كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى بقوله:
" يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ "(التوبة: ٣٥)
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن، لقوله تعالى:" أُعِدَّتْ ". أي: أرصدت وهيئت. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك؛ منها:" تحاجَّت الجنة والنار ".
ومنها:" استأذنت النار ربها، فقالت: ربِّ ! أكل بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف ".
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه:" سمعنا وجبة، فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم، منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها ".
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة، التي تؤكد على أن النار، التي أعدَّها الله تعالى للكافرين، وجعل وقودها الناس والحجارة، موجودة، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
==============
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
قال الله تعالى:" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " (الإسراء: ٨٨)
أولاً- هذا خطاب من الله جل وعلا، يأمر فيه نبيه ﷺ أن يخبر كفار مكة، بعجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وقد عمَّ بهذا الخبر، المؤكَّد بالقسم، جميع الخلق: إنسهم وجنهم، معجزًا لهم، قاطعًا بعجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة، ولو تظاهروا عليه. وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام في أول الأمر، عند كل من سمع هذا الكلام من المشركين وغيرهم من الكفار، وعلم أنه من القرآن، الذي أمِر ببلاغه إلى جميع الخلق، وهو وحده كافٍ في العلم بأن هذا القرآن العظيم خارقٌ، يُعجِز الثقلين عن الإتيان بمثله بحيلة، وبغير حيلة.
وروي في سبب نزول هذه الآية: أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت ردًّا عليهم.