ومن الفروق في المعنى بين " لَوْ "، و" إِنْ": أن الأصل في" لَوْ "أنها أداة تمن، ثم نقلت إلى الشرط؛ وذلك من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد؛ ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا- كما ذكرنا- ولهذا تستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال.
أما " إِنْ" فهي في الأصل موضوعة للشرط؛ ومن خواصِّها أنها تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بمعنى: أن الفعل معها ممكن الوقوع، وغير ممكن. وقد اجتمعت الأداتان في هذه الآية الكريمة، فأفادت" إِنْ" أن اجتماع الإنس والجن ممكن الحدوث، وأفادت " لَوْ " أن تظاهرهما غير متوقع الحدوث؛ وإنما جيء به للدلالة على المبالغة.
الأمر الثاني: أن المراد بقوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " هو نفيٌ لقدرة الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وليس المراد مطالبتهم بالإتيان بهذا المثل، ويدل على ذلك:
أولاً-أنه ليس في الكلام ما يشير، لا من قريب، ولا من بعيد، إلى أن المراد هو مطالبتهم بذلك. ولو كان المراد مطالبتهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، لوجب أن يقال: فأتوا بمثل هذا القرآن. أو: فليأتوا بمثل هذا القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر:" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ "(البقرة: ٢٣)
" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ "(الطور: ٣٤)
ثانيًا- أنه ليس من المعقول أن يثبت الله سبحانه عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن على سبيل القطع والجزم، ثم يطالبهم أن يأتوا بهذا المثل؛ ولهذا قال الزرقاني:”والقرآن نفسه أعذر حين أنذربأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله، وإن اجتمعوا له، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب“.
فثبت بذلك أن المراد بقوله تعالى" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "- كما ذكرنا-: هو إثبات عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وأن ذلك فوق طاقاتهم وقدراتهم. وهذا تحد لهم غير مباشر، وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: إذا ثبت عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، كان عجز الإنس عن ذلك من باب أولى. وإنما جمع بين الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين معًا. فقد ثبت بنص القرآن والسنة أن الجن منهم المؤمنون، ومنهم الكافرون. وأن الكافرين منهم كانوا يستمعون إلى القرآن، وهو يتلى، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بهم، ويقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإيمان، وأن كثيرًا منهم من آمن به، وكثيرًا منهم من بقي على كفره. فمثلهم في ذلك مثل الإنس تمامًا؛ ولهذا خاطبهم الله تعالى بقوله:
" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ "(الأنعام: ١٣٠)
ومن هنا نرى أنه لا داع لقول من قال: إن التحدي وقع للإنس دون الجن. أو إنه وقع للملائكة؛ لأنهم لا يقدرون- أيضًا- على الإتيان بمثل هذا القرآن. أو إنه وقع للعرب دون العجم.. أو غير ذلك من الأقوال، التي لا تغني من الحق شيئًا. وهو دليل أيضًا على أن اجتماع الإنس والجن ممكن كما ذكرنا.
الأمر الرابع: وهو أن علماء التفسير اختلفوا- قديمًا وحديثًا- وما زالوا يختلفون في معنى المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:" أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ "، على أقوال كثيرة، لا تخلو من تكلف، وتمحُّل؛ ولهذا وجدنا أحد الطاعنين في القرآن الكريم يثير بعض الأسئلة حول مفهوم هذه المثلية مشككًا في القرآن، وصحة نسبته إلى الله جل وعلا، فقال في مقدمة كتابه ( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ):
”لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما هي شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي " بِمِثْلِهِ " دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد " بِمِثْلِهِ "في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ “.
وأضاف قائلاً:” هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ “.
هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية.


الصفحة التالية
Icon