ونحن إذا نظرنا إلى قوله تعالى:" أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ "، نرى أنه يشير بوضوح، لا لبس فيه إلى أن المطلوب الإتيان به هو مثل هذا القرآن، لا القرآن نفسه. وأن الإشارة بقوله تعالى:" هَذَا الْقُرْآَنِ " إشارة إلى حاضر موجود، و أن المطلوب هو الإتيان بمِثْل هذا الحاضر الموجود. وهذا المثل ينبغي أن يكون معلومًا؛ لأنه لا تجوز المطالبة الإتيان بما لا يُعلَم، ولا يُدْرَى ما هو ؟ وجاء لفظ المثل في قوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ " مكرَّرًا على سبيل التوكيد والتوضيح؛ إذ قد يراد بمِثل الشيء: في موضع الشيء نفسه- كما قال أبو حيان- فبُيِّن بتكرار" بِمِثْلِهِ "، ولم يكن التركيب:" لَا يَأْتُونَ بِهِ "، رفعاً لهذا الاحتمال.
ويتضح مما تقدم أن للقرآن الكريم مثل، يماثله في تمام الحقيقة والماهية، وأن هذا المثل معلوم بنصِّ هذه الآية الكريمة. وهذا المثل هو الذي أخبر الله تعالى بعجز الثقلين مجتمعين عن الإتيان به، رغم تظاهرهم على ذلك.
ومما ينبغي الإشارة إليه- هنا- أن لكل شيء مِثلاً، يماثله في تمام الحقيقة والماهية إلا الله سبحانه وتعالى، فلا شبه له ولا مثل.. وأن مِثْل الشيء يؤخذ من الشيء نفسه، إذا ما تعذر وجود مِثْل له في الواقع. وأن المأخوذ فرعٌ، والمأخوذ منه أصل، وأن لفظ المِثْل يطلق على كل من الأصل، والفرع.
وهذا يعني- كما ذكرنا- أن للقرآن الكريم مِثلٌ معلوم، وأن ذلك المثل المعلوم هو الأصل، وهذا القرآن، الذي بين أيدينا هو فرع مأخوذ من ذلك الأصل.
ولمعرفة ذلك المثل، الذي هو أصل للقرآن، الذي بين أيدينا اقرؤوا، إن شئتم قول الله تعالى:
" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ "(البروج: ٢١- ٢٢)
فماذا تجدون ؟ تجدون: قرآنًا مجيدًا، في لوح محفوظ.
والمجيد هو العظيم وهو الكريم، وهو من صفات الباري جل وعلا. وفي لسان العرب:” يريد بالمجيد: الرفيع العالي. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ناوليني المجيد أي المصحف. وهو من قوله تعالى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ". ولفظ المجيد ورد في القرآن في أربعة مواضع، هذا أحدها.
والموضع الثاني في قوله تعالى:" وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ "(ق: ٢)
والثالث في قوله تعالى:" إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ "(هود: ٧٣)
والرابع في قوله تعالى:" ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ "(البروج: ١٥)
فجعل سبحانه وتعالى صفة القرآن من صفته جل وعلا:
" وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "(الروم: ٢٧)
أما اللوح- كما جاء في لسان العرب- فـ” هو مستودع مشيئات الله تعالى. وكل عظم عريض لوح، والجمع منهما: ألواح. وقال أبو إسحق: القرآن في لوح محفوظ، وهو أم الكتاب عند الله عز وجل. وقيل: هو في الهواء فوق السماء السابعة، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وهو من درة بيضاء. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله تعالى:" مَّحْفُوظٍ " يعني: مُصَانٌ، لا يمكن للشياطين أن تتنزَّل بشيء منه، أو تغيِّر منه شيئًا “.
" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: ٢١٠- ٢١٢)
فهل ذلك القرآن المجيد في ذلك اللوح المحفوظ من الشياطين هو قرآننا، الذي بين أيدينا، أم هو قرآن غيره ؟! وإن لم يكن هو، ولا غيره، فما قرآننا- إذًا- إن لم يكن مِثلاً مأخوذًا منه ؟
ثم اقرؤوا، إن شئتم، قول الله تعالى:
" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * في كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "(الواقعة: ٧٥- ٧٩)
وتأملوا، كيف نفى الله تبارك وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم، وكيف أقسم سبحانه بالقرآن في قوله:
" وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ "(ص: ١)، وقوله:" وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ "(ق: ١)
على ثبوت هذا القرآن نفسه وصدقه، وأنه حق من عنده ؟!
فإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن القرآن المقسم به، والموصوف بذي الذكر، وبالمجيد، هو غير القرآن، الذي نفى سبحانه وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم على أنه قرآن كريم.
ويدل على ذلك- أيضًا- أن الله عز وجل وصف هذا القرآن، الذي نفى حاجته إلى القسم عليه بمواقع النجوم، بقوله:
" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "(الواقعة: ٧٨- ٧٩)
كما وصفه بقوله:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ "(البروج: ٢١- ٢٢)
وفي تفسير قوله تعالى:" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " قال ابن قيِّم الجوزيَّة:”اختلف المفسرون في هذا، فقيل: هو اللوح المحفوظ “. ثم قال:”والصحيح: أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة؛ وهو المذكور في قوله:" فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ "(عبس: ١٣- ١٦).