ولعلماء النحو والتفسير في الإجابة عن ذلك أقوال، أذكر بعضها، وأبدأ بقول الفرَّاء- شيخ الكوفيين- وكان قد علل لدخول هذه اللام في الآية الثانية، وسقوطها من الآية الأولى، فقال:" العرب تدخل الواو في جواب" لَمَّا "، و" حَتَّى إِذَا "، وتلقيها؛ فمن ذلك قول الله:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "، وفي موضع آخر:" وَفُتِحَتْ "، وكلٌّ صواب ". وعلى هذا القول جمهور الكوفيين.
أما سيبويه- شيخ البصريين- فقد حكى لنا رأيَ أستاذه الخليل بن أحمد في الآية الثانية، فقال:"سألت الخليل عن قوله جل ذكره:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "أين جوابها ؟ وعن قوله جل وعلا:
" وََلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ "(البقرة: ١٦٥)..
فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبَر لأي شيء وُضِع هذا الكلام ".
أما الأخفش فحكى عن الحسن- رضي الله عنه- أنه فسر الآية الثانية على إلقاء الواو من قوله تعالى:" وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ". ثم قال:"فالواو في مثل هذا زائدة ". وقال في موضع آخر:"وإضمار الخبر أحسن في الآية ". ومراده بإضمار الخبر: حذف الجواب، وهو مذهب الخليل وسيبويه وجمهور البصريين.
فعلى قول الفراء وجمهور الكوفيين يكون جواب" حَتَّى إِذَا "في الآيتين قوله تعالى:" فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "، وجوَّزه الإمام الطبري في أحد قوليه.
وعلى قول الخليل وسيبويه وجمهور البصريين يكون الجواب في الآية الثانية محذوفًا لعلم المخاطب. وعلى قول الحسن- رضي الله عنه- يكون الجواب مذكورًا، وهو قوله تعالى:" وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ".
وفُسِّر قول الفراء على زيادة الواو، ونسِب ذلك إلى الكوفيين، وفُسِّر قول الخليل وسيبويه على أن الواو عاطفة على ما قبلها، والجواب محذوف ونسِب ذلك إلى البصريين. وإلى ذلك أشار النحاس بقوله:" فالكوفيون يقولون: زائدة. وهذا خطأ عند البصريين؛ لأنها تفيد معنى، وهي للعطف ههنا، والجواب محذوف ".
ثم اختلفوا في موضع هذا الجواب المزعوم حذفه على قولين: أحدهما قبل الواو. والثاني بعد الواو. واختلفوا أيضًا في تقديره على أقوال؛ أشهرها قول الزجاج، ونصه الآتي:" والذي قلته أنا- وهو القول إن شاء الله- أن المعنى: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، دخلوها.. وحذف؛ لأن في الكلام دليلاً عليه ".
واختار الطبري قول الزجاج على أنه أولى الأقوال بالصواب، مع تجويزه لقول الفراء. وقال الزركشي:"ويحتمل أن يكون التقدير: حتى إذا جاؤوها- أذن لهم في دخولها- وفتحت أبوابها".
ثم اختلفوا في معنى الواو على هذا القول على قولين: أحدهما: أنها واو العطف. والثاني: أنها واو الحال، وإليه ذهب الزجاج، والزمخشري، وأبو حيان، وأجاز الزركشي القولين معًا.
وحكى القرطبي عن أبي بكر بن عياش أنها واو الثمانية، وذكر أن من عادة قريش إذا عدوا، قالوا: خمسة، ستة، سبعة، ثمانية. ولما كانت أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، أدخلت الواو في آية أهل الجنة، ولم تدخل في آية أهل النار. وقد ضعِّف هذا القول من قبل الكثيرين.. وأخيرًا استقرَّ رأي جمهور المتأخرين على أنها واو الحال، وأن المعنى:
حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها، دخلوها. أو ما شابه ذلك.
وعدُّوا حذف الجواب من بلاغة القرآن وإعجازه. وعن الحكمة في إثبات الواو في الثاني قال بعضهم:"لمّا قال الله عز وجل في أهل النار:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "
دل على أنها كانت مغلقة.. ولمّا قال في أهل الجنة:
" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا "
دل على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها ".
وقد وقع هذا القول موقع الإعجاب في نفوس الكثير من الدارسين، والباحثين المعاصرين، من علماء اللغة والنحو والتفسير، أذكر منهم الدكتور فضل حسن عباس، صاحب كتاب ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن ). لقد تحدث الدكتور فضل عن هذه الواو، فصال وجال، وأتى بالعجب العجاب، فكان كالمعري، الذي وصف نفسه بقوله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ***لآت بما لم تستطعه الأوائل
وبدأ حديثه عن هذه الواو بهجومه العنيف على الفراء، واتهمه بسوء النظر والفكر معًا.. ثم زعم أن هذه الواو صاحبة رسالة، مستشهدًا على ذلك بقوله تعالى:" اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ "(الأنعام: ١٢٤)
ثم ذكر مدَّعيًا أن حذف الجواب في الآية من دقائق الإعجاز، وأن حذف جواب " إِذَا " مستفيض في القرآن، وكلام العرب؛ ولهذا قال في معنى الآية الكريمة:"حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها، كان لهم من إكرام الله ما لا يمكن حصره.. أو ما يشابهه ".
ولم يتوقف الدكتور فضل عند هذا الحد؛ بل زعم أن الجواب في آية أهل النار محذوف أيضًا، وأن جملة " فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " استئنافية، وأن المعنى:
حتى إذا جاؤوها، فتحت أبوابها، وجدوا من الهول والحسرة والندامة والأسى ما يعجز عنه الوصف، وقال لهم خزنتها: كذا وكذا.