وانتهى من ذلك إلى القول:” فإن قبلت هذا القول فخذ به، ولكل وجهة هو مولِّيها“.
وفي الإجابة عن ذلك كله أقول بعون الله وتعليمه:
أولاً-للواو في لغة العرب وظيفة لغوية في التركيب، وهي الربط بين مفردين، أو جملتين، ولها معنيان: أولهما: العطف. وثانيهما: الجمع. وكثيرًا ما تُخلَعُ عنها دلالتها على العطف، فتخلص لمعنى الجمع فقط. وهذا ما أشار إليه ابن جني في( باب خلع الأدلة ) من كتابه ( الخصائص )، فقال:”ومن ذلك واو العطف؛ فيها معنيان العطف، ومعنى الجمع. فإذا وضعت موضع:( مع )، خلُصت للاجتماع، وخلِعت عنها دلالة العطف ؛ نحو قولهم: استوى الماء، والخشبة “.
ومثل ذلك هذه الواو، التي أدخلت في قوله تعالى:" وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " فهي واو أخلِصَت لمعنى الجمع بعد أن خلِعت عنها دلالتها على العطف، فدلت بذلك على اجتماع حدثين في وقت واحد: مجيء المؤمنين إلى الجنة، وفتح الجنة أبوابها لهم؛ كما دلت على الجمع بين استواء الماء، واستواء الخشبة في قولهم: استوى الماء والخشبة. ومثلها في الدلالة على معنى الجمع الواو في قوله تعالى:
" فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ "(يونس: ٧١)
أي: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. ويحمل على ذلك أيضًا قوله تعالى:
" وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ "(الحشر: ٩)
أي: تبوَّؤوا الدار الآخرة مع الإيمان.
وأما تفسيرهم لها بالحالية، أو العاطفة فهو محكوم بالقاعدة النحوية، التي تنصُّ على أن جواب الشرط لا يقترن في حالات مخصوصة بغير الفاء، أو إذا الفجائية. فلما اعترضتهم نصوص من القرآن الكريم ولغة العرب، تخالف ما اصطلحوا عليه من قواعد، أخذوا بأعناق تلك النصوص، واخضعوها لقواعدهم، وبذلك ارتضوا القواعد النحوية مركبًا، فقتلوا أنفسهم بذلك، وقتلوا معها النصوص، متجاهلين أن النصوص القرآنية لا تخضع لقواعد النحاة، وتأويلاتهم المنطقية. وإذا أردت أن تعرف ذلك، فاسمع قول أبي حيان صاحب تفسير البحر المحيط:”التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادة على شيء، ثم جاء شيء يخالف الجادة، فيُتأَوَّل“.
ويقصد أبو حيان بالجادة-هنا- القواعد النحوية، التي قعَّدها النحاة، فما خرج عنها يجب أن يتأوَّل حتى يعود إليها. وبهذا التأويل، الذي يخضع للجهد الذهني العميق، جعلوا من النصوص القرآنية تبعًا للقواعد النحوية، والعكس هو الذي ينبغي أن يكون.
ثانيًا- إذا ثبت حذف جواب" إِذَا " و" لََوْ " في بعض المواضع، فإن حذف جواب " حَتَّى إِذَا " لم يثبت أبدًا في أيٍّ من تلك المواضع. وليس من الصواب في شيء أن يقاس جواب " حَتَّى إِذَا " على جواب " إِذَا "، أو جواب " لََوْ "؛ لأن من شروط القياس المعتبرة في اللغة أن تقاس الظاهرة اللغوية بأمثالها.
ثم إن القياس النحوي لم يصلح يومًا لأن يكون منهجًا للبحث العلمي؛ إنما الذي يصلح لذلك هو الاستقراء اللغوي، وهذا ما فعله الفراء. والدليل على ذلك أنه أنكر، وبأسلوب رقيق مهذب، قول من جعل قول الله تعالى:" وَأَذِنَتْ " جوابًا لـ" إِذَا "، في قوله تعالى:" ِإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ "(الانشقاق: ٢)
فقال:”ونرى أنه رأيٌ ارتآه المفسِّرُ، وشبَّهه بقوله تبارك وتعالى:" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا "؛ لأنا لم نسمع جوابًا بالواو في " إِذَا " مبتدأة، ولا قبلها كلام، ولا في " فَلَمَّا "، إذا ابتُدِئت؛ وإنما تجيب العرب بالواو في قوله:( حتى إذا كان ) و( فلمَّا أن كانت )، لم يجاوزوا ذلك “.
والفراء راوية ثقة، لا يشك أحد في ما يرويه عن العرب، وقد شهد له بذلك أبو حيان، الذي تقدم ذكره. والشواهد القرآنية، وغيرها تؤيد قوله وتؤكِّده، فمن الشواهد القرآنية نذكر قول الله تعالى:
" حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ *وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا "(الأنبياء: ٩٦-٩٧)
فقوله تعالى:" وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ " جواب قوله:" حَتَّى إِذَا "، وقد جاء مقترنًا بالواو، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، اقترب الوعد الحق.. ويدلك على أن " اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ "هو الجواب، أن فتح يأجوج ومأجوج، ونسلهم من كل حدب هو علامة من علامات اقتراب هذا الوعد، الذي هو يوم القيامة، وهو المشار إليه بقوله تعالى: َ" فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً "(الكهف: ٩٨)
ومن الشواهد الشعرية، التي أنشدها الفرَّاء نذكر قول الشاعر:

حتى إذا قمِلت بطونُكُمُ ورأيتمُ أبناءكم شَبُّوا
وقلبتمُ ظهرَ المِجََنِّ لنا ***إن اللئيم العاجز الخبُّ
والمعنى: قلبتم لنا ظهر المجن، بدون واو. والواو جامعة في الموضعين بين حدثين في وقت واحد، أولهما فعل الشرط، والثاني: جواب الشرط.


الصفحة التالية
Icon