لما ذكر سبحانه وتعالى ما تقدم من تعلقَّ الناس بالحياة الدنيا ومتاعِها الزائل، وركوبهم في سبيل ذلك المتاع مراكب البغي، بيَّن لهم أن هذا البغي أمر باطل، يجب على العاقل أن يحذر منه، فقال سبحانه:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "(يونس: ٢٣).
مشيرًا بذلك إلى أن بغي على أنفسهم إنما هو منفعة الحياة الدنيا، لا بقاء له. بمعنى: أنه لا يتهيأ لهم بَغيُ بعضهم على بعض إلا أيامًا قليلة؛ وهي مدة حياتهم مع قصرها وسرعة انقضائها.
ثم عقََّبسبحانه وتعالى على ذلك بضرب هذا المثل، الذي يدعو فيه كل لبيب عاقل إلى الزهد في الحياة الدنيا الفانية، ومتاعها الزائل، ويحذرهم من الاغترار بزينتها، وبهجتها؛ لأن مصير ذلك كله إلى زوال، وفناء، فقال جل شأنه:
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ.. "
فكان ذلك بمنزلة البيان لقوله تعالى في الآية السابقة:" مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "، المؤذن بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة.
وهو تمثيل بين وجودين: الأول ذهني معقول؛ وهو قوله تعالى:" مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ". والثاني خارجي محسوس؛ وهو قوله تعالى:" كمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ.. "؛ وهو صورة مركَّبة من الماء المنزل من السماء، ونبات الأرض المختلط بالماء، وما يمر به من أطوار. والكاف بينهما أداة التشبيه، والجامع: الزينة والبهجة، ثم الهلاك والزوال.
وقوله تعالى:" إِنَّمَا " أداة قصْر جيء بها لتأكيد المقصود من هذا التشبيه، وهو سرعة الهلاك والزوال، ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا وزينتها؛ لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا؛ كحال من يحسب دوامه، وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجىء. فالقصر- هنا- قصر قلب؛ لأنه مبْنيٌّ على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس ذلك.
والمعنى: أن مثل الحياة الدنيا، في زينتها وبهجتها، وما يتعقبها من الزوال والفناء، يُشْبِه نبات الأرض المختلط بماء السماء، ممَّا يأكل الناس والأنعام؛ حتى إذا استكملت به الأرض زينتها، وظهر حسنُها وجمالها، فبدت كأنها العروس ليلة زفافها، بما تزينت به من أنواع النبات، وأشكاله المختلفة وألوانه الزاهية، واطمأن إليها أهلها، وظنوا أنهم قادرون على جنْيِ ثمارها، وحصْد زروعها بعد أن سلمت من الآفات، نزل به قضاء الله بغتة، فجعله حصيدًا؛ كأنْ لم يَغنَ بالأمس.. كذلك مثل الحياة الدنيا، والواثق المغتر بها سواء !
وهكذا صوَّر الله تعالى الحياة الدنيا، في تقضِّيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها وبهجتها، بصورة نبات الأرض، في هلاكه وبواره بعد اخضراره وزهائه؛ فبيَّن بذلك لكل باغ مفسد في الأرض مغتر بالدنيا متشبث بها، كيف ينتهي شريط الحياة كلها بما فيها من زينة ومتاع، بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشرية المألوفة؛ ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال.
فالمشبه هنا، وهو مثل الحياة الدنيا في زينتها وبهجتها، ثم زوالها، وإن كان يتكرر، إلا أن إحساسنا به ليس بنفس درجة الإحساس بصورة النبات الزاهي، الذي يصيبه الهلاك؛ لأن هذا يقع كثيرًا تحت السمع والبصر، بخلاف الأول.. ففي كل يوم نرى نباتًا يحياً، ونباتًا يموت، فنرى بذلك الحياة والموت يمثلان أمامنا في كل زمان ومكان. ولهذا كثُرَت هذه الصور في القرآن الكريم. والله سبحانه أراد بذلك أن يلفت في كل حال إلى المصير المحتوم، وأراد أيضًا أن يلفت إلى ضرورة التفكير فيما يحيط بالمسلم، ويقع عليه بصره من الأشياء، وضرورة أخذ العظة والعبرة من ذلك.
ذلك هو مثل الحياة الدنيا، التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ويستغرقون فيها، ويضيِّعون الآخرة، التي هي أكرم وأبقى؛ لينالوا منها بعض المتاع. وهو من أبلغ الأمثال، التي تقوم على التشبيه والقياس.
وننظر قوله تعالى:" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ "، فنجد فيه لمحة من لمحات الإعجاز البياني.. نجدها في هذا التخالف بين المُمَثَّل، والمُمَثَّل به؛ حيث كان الظاهر أن يقال: إنما مثل الحياة الدنيا؛ كمثل ماء.. وبذلك تحصل المطابقة بين وجهيْ الصورة.
ولكن هذا يخلُّ بمعنى الكلام؛ حيث يقضي أن تكون المماثلة، بين﴿ مثل الحياة الدنيا ﴾، ﴿ ومثل النبات المختلط بنبات الأرض ﴾. وهذا يوجب أن يكون التمثيل بين وجودين علميين ذهنيين. وقد سبق أن ذكرنا أن التمثيل- هنا- هو بين وجودين: الأول: علمي ذهني. والثاني: علمي خارجي. وإذا كان كذلك، فلا يجوز ذكر لفظ ﴿ المثل ﴾، أو تقديره عقب كاف التشبيه.