ونقرأ قوله تعالى:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فنجد لمحة أخرى، من لمحات الإعجاز البياني؛ حيث كان الظاهر أن يقال:﴿ أذهب الله نورَهم ﴾، وكذا قرأ اليمانيُّ. أو يقال:﴿ ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم ﴾.
ولكنَّ الله تعالى، لم يقل هذا، ولا ذاك؛ وإنما قال:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة، لا مجازًا، واختار النور، على النار وضوئها.
أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فللدِّلالة على المبالغة؛ ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء، دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك.. وبيان ذلك:
أنه إذا قيل: ذهب الشيءُ، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو غير رجعة؛ قوله تعالى:" وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ "(الصافات: ٩٩). وقوله تعالى:" فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ "(هود: ٧٤).
وإذا قيل: أذهبَ فلانٌ الشيءَ، فمعناه: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبًا؛ ومنه قوله تعالى:"إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ "(إبراهيم: ١٩).
فإذا قيل: ذهبَ فلانٌ بالشيء، يُفهَمُ منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى، التي كان عليها؛ وكأنه التصق به التصاقًا. وليس كذلك: أذهبه؛ ومنه قوله تعالى في يوسف عليه السلام:" فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ "(يوسف: ١٥).
فثبت بذلك: أنَّ﴿ ذهب بالشيءِ ﴾أبلغ من ﴿ أذهب الشيءَ﴾، وأصلهما جميعًا: الذهاب، الذي هو المُضِيُّ. وكلاهما متعدٍّ إلى المفعول: الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول بزيادة هذه الباء، وأن المعنى معها، وبدونها سواء.
وأما اختيار النور على النار وضوئها فلأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حُرموا الانتفاع والإضاءة، بما جاء من عند الله، ممَّا سمَّاه الله نورًا في قوله:" َقدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ "(المائدة: ١٥)؛ فكأنَّ الله عزَّ شأنه أمسك عنهم النور، وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمِّه سبحانه ضوءًا، أو نارًا؛ لتتأتَّى هذه الإشارة.
والنار جَوهرٌ، لطيفٌ، نيِّرٌ، واشتقاقها من نار ينور، إذا نفر؛ لأن فيها حركة واضطرابًا، وتنكيرها للتفخيم. ومن أخصِّ أوصافها: الإحراقُ والإضاءةُ. والإضاءة: فرط الإنارة. يقال: ضاءت النار، وأضاءت، وأضاءها غيرُها، وما انتشر منها يسمى: ضوءًا. والفرق بينه، وبين النور: أن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ كما للشمس. والنور ما يكون من غيره؛ كما للقمر. ومصداق ذلك قوله تعالى:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً "(يونس: ٥)
هذا وقد اشتهر في العرف أن الضوء، ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة؛ ولهذا قال تعالى:" فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ "، فأضاف النور إلى المنافقين، الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار، مع المجتمعين. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، أفاد ذلك أن لهؤلاء المنافقين ضوءًا؛ كما أن للنار والشمس ضوءًا. وهذا باطل. فهم مستضيئون، لا مضيئون. وما انعكس عليهم من ضوء النار، نتيجة استضاءتهم به هو نورهم، الذي أمسكه الله تعالى عنهم، وحرمهم من الانتفاع به. ولو قيل: ذهب الله بنارهم، لفُهِم منه أن النار هي نارهم، وأنهم هم الذين أوقدوها. وهذا خلاف المراد.
وقوله تعالى:" وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ " عطفٌ على قوله:" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ". ويُستفاد منه التأكيد والتقرير، لانتفاء النور عنهم بالكليَّة، تِبْعًا لما فيه من ذكر الظلمة المنافية للنور، ثم إيرادِ ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحان. والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة، التي صاروا إليها.
أما قوله تعالى:" وَتَرَكَهُمْ " فهو إشارة إلى تحقيرهموعدم المبالاة بهم، لما فيه من معنى الطرح للمتروك. و" ظُلُمَاتٍ " جمع: ظلمة. والظلمة هي عدم النور. وقيل: هي عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي ما منعك وشغلك؛ لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن:" ظُلْمَاتٍ "، بسكون اللام. وجمعها وتنكيرها، لقصد بيان شدتها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم:” الظلم ظلمات يوم القيامة“؛ فإن الكثرة، لما كانت في العرف سبب القوة، أطلقوها على مطلق القوة، وإن لم يكن ثمَّة تعدد، ولا كثرة.
ومن اللطائف البديعة أن﴿ الظلمة ﴾حيثما وقعت في القرآن، وقعت مجموعة، وأن﴿ النور ﴾حيثما وقع، وقع مفردًا. ولعل السبب هو أن الظلمة، وإن قلَّت، تستكثر. وأن النور، وإن كثُر، يُستقلّ ما لم يضرَّ. وأيضًا فكثيرًا ما يشار بهما إلى نحْو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثيرٌ، والكثير من الإيمان قليلٌ، فلا ينبغي الركونُ إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.


الصفحة التالية
Icon