((أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)) [العلق: ١٣، ١٤]فالتهديد إذن يأتي في إبانه: ((كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ)) [العلق: ١٥] هكذا (لنسفعا) بذلك اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه.. وأنه لأوقع من مرادفه: لنأخذنه بشدة. و(لنسفعاً بالناصية) صورة حسية للأخذ الشديد السريع، ومن أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر، من مقدم الرأس المتشامخ، إنها ناصية تستحق السفع: ((نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)) [العلق: ١٦] وإنها للحظة سفع وصرع فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه: ((فَلْيَدْعُ نَادِيَه)) [العلق: ١٧] ومن فيه، أما نحن فإننا ((سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)) [العلق: ١٨] وهنا يخيل السياق للسامع صورة معركة بين المدعوين: بين الزبانية وأهل ناديه، وهي معركة تخييلية تشغل الحس والخيال، ولكنها على هذا النحو معروفة المصير، فلتترك لمصيرها المعروف، وليمض صاحب الرسالة في رسالته، غير متأثر بطغيان الطاغي وتكذيبه، ((كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)) [العلق: ١٩] هذا ابتداء قوي منذ اللحظة الأولى للدعوة، وهذه الفواصل التي تبدو في الظاهر متناثرة، هي هكذا من الداخل متناسقة وهذا نسق من القرآن في السورة الأولى الشبيه في ظاهرها بسجع الكهان، أو حكمة السجاع) [٢٤].
التأثير
الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإبانة خطره، هي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه، وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً، وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، قال تعالى:
((تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)) [الزمر: ٢٣] [٢٥]. قال سيد رحمه الله يبين هذا التأثير في تفسيره لسورة النجم: ((فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)) [النجم: ٦٢] وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق وفي هذه الظلال، وبعد هذا التمهيد الطويل، الذي ترتعش له القلوب، ومن ثم سجدوا، سجدوا وهم مشركون! وهم يمارون في الوحي والقرآن! وهم يجادلون في الله والرسول!
سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم، والرسول ﷺ يتلو هذه السورة عليهم، وفيهم المسلمون والمشركون، ويسجد فيسجد الجميع، مسلمين ومشركين، لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن، ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان، ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون!!
بهذا تواترت الروايات، ثم افترقت في تعليل هذا الحديث الغريب، وما هو في الحقيقة بالغريب، فهو تأثير هذا القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب!
ولقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود، ويخطر لي احتمال أنه لم يقع، وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة، بعد نحو شهرين أو ثلاثة، وهو أمر يحتاج إلى تعليل، وبينما أنا كذلك وقعت لي تجربة شعورية خاصة وهي...) [٢٦].
الفن
١- القصة: وذلك أن القصة الواحدة ترد في سور شتى، وفواصل مختلفة، بأن يأتي في موضع واحد مقدماً وفي آخر مؤخراً، كقوله في سورة البقرة: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)) [البقرة: ٥٨] وقوله في الأعراف: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)) [الأعراف: ١٦١] وقوله في البقرة: ((وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة: ١٧٣] وسائر القرآن: ((وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) [المائدة: ٣] سورة الأنعام (١٤٥)، سورة النحل (١١٥) [٢٧].
٢- التصوير: هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسوسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة [٢٨].
والآن نأخذ في ضرب الأمثال:
ونبدأ بالمعاني الذهنية التي تخرج في صورة حسية:
أ- يريد أن يبين أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً، وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل، هذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية: ((إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) [الأعراف: ٤٠] ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء، صور أخرى لولوج الحبل الغليظ في سم الخياط، ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم (الجمل) خاصة في هذا المقام، ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر؛ ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة في أعماق النفس، وقد وردا إليها عن طريق العين والحس –تخيلاً- وعبرا إليها من منافذ شتى في هينة وتؤدة، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية [٢٩].