قال الله تعالى:" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "(الشورى: ١١)
أولاً- هذه الآية الكريمة جاءت تعقيبًا على قوله تعالى:" وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "( الشورى: ١٠ )
وفيه يبين الله سبحانه للناس الجهة، التي يرجعون إليها عند كل اختلاف يقع بينهم، وهي هذا الوحي، الذي جاء من عند الله، والذي يتضمن حكم الله تعالى. فما من شيء اختلفوا فيه إلا وحكم الله تعالى فيه حاضر، في هذا الوحي، الذي أوحاه سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتقوم الحياة على أساسه. وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي تعالى قول رسوله صلى الله عليه وسلم، مسلمًا أمره كله إلى ربه، ومنيبًا إليه بكليته. ثم يأتي قول الله تعالى:
" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "( الشورى: ١١ )
بما يزيد تلك الحقيقة تقريرًا، وتمكينًا في النفس. فالله الذي أنزل القرآن؛ ليكون حكم الله تعالى فيه هو الفصل، فيما يختلفون فيه، هو فاطر السموات والأرض، وفاطرهم، وهو الذي سوَّى نفوسهم وركَّبها، فنظم لهم حياتهم من أساسها، فهو سبحانه أعلم بما يصلح لها، وما تصلح به وتستقيم، وهو سبحانه الذي أجرى حياتهم وفق قاعدة الخلق، التي اختارها للأحياء جميعًا: جعل لهم من أنفسهم أزواجًا، ومن الأنعام أزواجًا، يذرؤهم فيه.. فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود.. إنه هو الذي جعلهم- هم والأنعام- يتكاثرون، وفق هذا المنهج، وهذا الأسلوب؛ وذلك من أعظم النعم، التي أنعم الله تعالى بها على عباده، وامتنَّ بها عليهم. وهو آية من آياته الدالة على إلهيته ووحدانيته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده.
ثم أكَّد سبحانه تفرَّده دون خلقه جميعًا بالإلهيَّة والوحدانيَّة، والاستحقاق للعبادة، فأخبر على سبيل النفي أنه ليس هنالك ذات من ذوات الأشياء، تشبهه في ذاته، فضلاً عن أن تماثله فيها، سبحانه وتعالى.. والفطرة تؤمن بهذا بداهة؛ لأن خالق الأشياء لا يمكن أن تشبهه، أو تماثله تلك الأشياء، التي هي من خلقه. ومن ثَمَّ فإنها ترجع كلها إلى حكمه، عندما تختلف فيما بينها على أمر، ولا ترجع معه إلى أحد غيره; لأنه ليس هنالك شبه له، أو مثل، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف.
ومع أنه سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته؛ لأنها مغايرة لذوات الأشياء كلها تمام المغايرة، فإن الصلة بينه عز وجل، وبين ما خلق ليست منقطعة بسبب تلك المغايرة، فهو سبحانه يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، ثم يحكم حكم السميع البصير. " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ "( المائدة: ٥٠ )
ثانيًا- وقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " تقرير للتوحيد، وإبطال لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم بالله جل وعلا، وجعلهم مثلاً له سبحانه، حتى عبدوهم معه. وهذا التشبيه والتمثيل، الذي أبطله الله سبحانه بهذا النفي هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام والأقزام.
ولعلماء النحو والتفسير في تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متضاربة، وآراء متباينة. والسبب في ذلك يرجع إلى إجماعهم على تفسير الكاف بمعنى المِثل؛ ولهذا تأولوا الآية على معنى: ليس مِثل مِثله شيء. ولما كان هذا التأويل يفضي إلى المحال؛ لأنه يثبت لله جل جلاله مِثلاً، اختلوا في تفسيره على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الكاف زائدة، لتأكيد المِثل. وعليه يكون المعنى: ليس مِثل الله شيء. وهذا قول الجمهور، جاء في لسان العرب:" وقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، أراد: ليس مثله. لا يكون إلا ذلك؛ لأنه، إن لم يقل هذا، أثبت له مِثلاً، تعالى الله عن ذلك ".
والقول الثاني: أن الزائد هو لفظ المِثل، لا الكاف. وعليه يكون المعنى: ليس كهو شيء. أي: ليس كالله شيء. وهذا يفضي إلى القول الأول؛ لأن الكاف- عندهم كما ذكرنا- بمعنى مِثل. ومنهم من قال: إن العرب تستعمل المِثل كناية عن الذات للمبالغة، فتقول: مِثلك لا يبخل، ينفون عن مِثله البخل، وهم يريدون نفيه عن ذاته.
والقول الثالث: أنه لا زائد في الآية، ثم اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن لفظ المِثل بمعنى: الذات، وأن المعنى: ليس كذاته شيء. وذهب بعضهم الآخر إلى أنه بمعنى: الصفة، وأن المعنى: ليس كصفته شيء. وجمع بعضهم بين المعنيين، فذهب إلى أن المعنى: ليس كذاته، وصفته شيء.