واختار المرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه:( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ) القول بأن المِثْل بمعنى: الوصف، فقال بعد أن قرَّر أن المَثَل، بفتحتين، والمِثْل، بفتح فسكون، يستعملان بمعنى الوصف، إذا اقترنا بكاف التشبيه:” فيمكن أن نقول في " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ": لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء؛ وذلك لأن المِثل، والمَثل يستعملان بمعنى الوصف.. وبهذا ينحل الإشكال الذي ألجأ العلماء إلى تأويل اجتماع كلمتي تشبيه، هما: الكاف، ومثل.. وهل الكاف زائدة، أو للتأكيد ؟ أو أن المراد: نفي مثل المثل، فنفي المثل من باب أولى.. إلى غير ذلك من كلام طويل حول هذا التعبير“.
وانتهى من ذلك إلى القول:”وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم نصوصًا قرآنية كثيرة. وبتفسير كلمة مَثَل، أو مِثْل بمعنى الوَصْفِ تنحلُّ إشكالاتٌ لفظيةٌ كثيرةٌ، يتعَبُ كثيرُ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها “.
وهكذا، بهذه البساطة، توصَّل الشيخ حَبَنَّكَةالمَيْداني- رحمه الله- إلى حلِّإشكالات لفظية كثيرة، يتعَبُ كثيرٌ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها- على حدِّ قوله- فكان كمَنْ أوقع نفسه في إشكالات أكبر من كل تلك الإشكالات، التي ذكرها؛ وذلك لمَا في قوله من إخُلالٍ ظاهر بمعنى الآية الكريمة، وصَرْفٍ لها عن الوَجْهِ، الذي قيلت من أجله.
وأورد الشيخ عبد المجيد البيانوني في كتابه ( ضرب الأمثال في القرآن ) قولاً في هذه الآية ذكره الراغب الأصفهاني في مفرداته عن بعضهم، وهو القول الذي اعتمد عليه المرحوم الشيخ حسن حبنكة الميداني في تقرير ما قرَّر، ثم عقب عليه بقوله:”انظر إلى المبحَث النفيس، الذي حققه الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراذ، في معنى هذه الآية في كتابه ( النبأ العظيم )، فارجع إليه؛ فإنه مَبحَث نفيس، ويكشف لك عن سر الإعجاز الإلهي في هذا الحرف“.. ولما رجعت إليه، وجدته يردِّد في ذلك كلامًا، نقله الفخر الرازي في تفسيره عن بعضهم، وهو- كما يقول أبو حيان- كلام يحتاج إلى تأويل.
والحقيقة أن سرَّ الإعجاز الإلهي في هذه الآية الكريمة لا يتجلَّى لنا، إلا إذا فرَّقنا في المعنى أولاً بين المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، من جهة، وبينهما، وبين الكاف من جهة أخرى. ثم أدركنا ثانيًا سر الجمع بين المِثْل، والكاف فيها. وهذا ما سأبينه- هنا إن شاء الله- فأقول بعون الله تعالى وتعليمه:
أما المٍثْل، والمَثَل فهما من الأسماء، التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر؛ كالنصف، والزوج، والضعف. ويجمع كل منهما على أمثال، ويفرق بينهما بالقرائن. واشتقاقهما من( الميم والثاء واللام )، وهو أصل موجود في اللغات السامية كلها، ويتضمَّن فيها جميعًا معنى: المُماثلَة.
وحقيقة المماثلة أنها مساواة بين شيئين متماثلين؛ إما في تمام الحقيقة والماهيَّة. وإما في تمامالأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهية؛ بحيث يقوم أحد الشيئين مقام الآخر، فيما تكون فيه المماثلة، ويَسُدُّ فيها مَسَدَّه. والأولى هي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل، بكسر فسكون، والثانية هي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل، بفتحتين.
فعلى هذا إذا قيل: زيد مِثْلُ عمرو، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام حقيقتِه وماهيَّتِه. وإذا قيل: هو مَثَلُه، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام أحواله وصفاته، الخارجة عن حقيقته وماهيَّته.
وبهذا يعلَم أن المماثلَة بين الشيئين نوعان: مماثلة في الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومماثلة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل.
ويتضح من ذلك أن المِثْل، والمَثَل يتفقان في دلالة كل منهما على المساواة، ثم يفترقان في دلالة الأول على المساواة في الحقيقة والماهيَّة، ودلالة الثاني على المساواة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة.
بقي أن تعلم أن الفرق بين المماثلة، والمساواة هو: أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس، والمتفقين؛ لأن التساوي يكون في المقدارين، اللذين لا يزيد أحدهما على الآخر، ولا ينقُص عنه. أما المماثلَة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. ولهذا يقال في المساواة: هذا الشيء يساوي درهمًا. ولا يقال: هذا الشيء يماثل درهمًا، لاختلافهما في الجنس.
ومن هنا لا يجوز أن يقال: إن المِثْل، والمَثَل سيَّان، وإن كان اشتقاقهما يرجع إلى مادة واحدة. كما لا يجوز أن يفسَّر كل منهما بمعنى الوصف.
أما الكاف فهي أداة موضوعة للتشبيه بين شيئين قد يتفقان في الجنس، وقد يختلفان فيه. والتشبيه بينهما يكون في صفة، أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات. فإذا قلت: زيد كعمرو، فمعناه: أن زيدًا يشبه عمروًا في صفة، أو أكثر من الصفات؛ ولهذا لا يجوز أن تفسَّر الكاف بمعنى المِثْل، فالأولى أداة موضوعة للتشبيه في الصفات، والثاني اسم موضوع للمماثلة في الذوات.


الصفحة التالية
Icon