وفي الفرق بينهما ذكر أبو هلال العسكري:” أن الشيءَ يُشبَّه بالشيء من وجه واحد، لا يكون مِثْلَهُ في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته؛ فكأن الله تعالى، لمَّا قال:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، أفاد أنه لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ.. ولو كان قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " نفيًا أن يكون لمثله مثل، لكان قولنا: ليس كمثل زيد رجل، مناقضة؛ لأن زيدًا مثل من هو مثله.
والتشْبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمِثْل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. تقول: ليس كزيد رجل. أي: في بعض صفاته؛ لأن كل أحد مِثْله في الذات. وفلان كالأسد. أي: في الشجاعة دون الهيئة، وغيرها من صفاته. وتقول السواد عرض كالبياض ولا تقول مثل البياض “.
وواضح من ذلك أن الفرق بين التشبيه، والمماثلة يكون من وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: زيد كالأسد فمعناه: أن زيدًا يشبه الأسد في صفة، أو أكثر من صفاته. هذا هو الأصل في التشبيه.
والوجه الثاني: أن التشبيه يكون بين المتفقين في الجنس، وبين المختلفين فيه. أما المماثلة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. وعلى هذا يجوز أن تقول: زيد كالجبل، فتشبِّه زيدًا بالجبل في صفة، أو أكثر من صفاته؛ كما شبه الله تعالى السفن بالجبال في العظم والارتفاع في قوله تعالى:
" وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ "( الرحمن: ٢٤ )
ولا يجوز أن تقول: زيد مثل الجبل، لاختلافهما في الجنس. والوجه في ذلك أن تقول: زيد مثل عمرو، فتماثل بين متفقين في الجنس؛ كما ماثل الكفار بينهم، وبين الرسل في حقيقة الذات البشرية، فقالوا في معرض اعتراضهم عليهم:
" إن أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا "( إبراهيم: ١٠ )
فاعتبروا المساواة في البشرية، ومماثلة المجانسة فيها، واستدلوا بذلك على أن حُكْمَ أحد المِثْلَيْن حُكْمُ الآخر. فقالوا: كما لا نكون نحن رُسُلاً، فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في حقيقة الذات البشرية، فأنتم مِثْلُنا، لا مَزِيَّةَ لكم علينا.
ومن ذلك ما حكي عن المشركين من قولهم:
" إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا "( البقرة: ٢٧٥ )
أرادوا: أن البيع مساو للربا في تمام الحقيقة والحكم، فقد بلغ من اعتقادهم في حِلِّ الرِّبا، أنهم جعلوه أصلاً وقانونًا في الحِلَّ، وقاسوا عليه البيع. ولو قالوا: إنما البيع كالرِّبا، لكان مرادهم أن البيع يشبه الربا من حيث الصورة، لا من حيث الحقيقة. وهذا خلاف المراد.
ويبين لك ذلك أن الفرق بين الحلال، والحرام لا بدَّ أن يكون فرقًا في الحقيقة، ولو كان فرقًا في الصورة، أو الصفة، لاستوى البيع مع الرِّبا في الحل. وإلى ذلك أشار ابن قيِّم الجوزية بقوله:” ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلغَى عند اللَّه تعالى ورسوله في فطر عباده، فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ، إذا اختلفت ومعناها واحد، كان حكمها واحدًا. فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني، كان حكمها مختلفًا. وكذلك الأعمال، إذا اختلفت صورها، واتفقت مقاصدها. وعلى هذه القاعدة يُبنَى الأمر والنهي، والثواب والعقاب “.
واختلفوا في المراد بالمماثلة في قوله تعالى:" وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ "( يس: ٤٢ ):
أهي مماثلة بين المتفقين في الجنس، أم بين المختلفين فيهما ؟ على قولين: أحدهما: أن المراد بها: السُّفُن. والثاني: أن المراد بها: الإبل، وكانوا يسمُّونها: سُفُنَ البَرِّ.
وعقَّب على ذلك ابن قيِّم الجَوْزيَّة بقوله:”والأصحُّ أن المِثْل المخلوق- هنا- هو السُّفُن، وقد أخبر أنها مخلوقة؛ وهي إنما صارت سُفُنًا بأعمال العباد. وأبْعَدَ من قال: إن المِثْل- ههنا- هو سُفُنُ البَرِّ، وهي الإبل، لوجهين:
أحدهما: أنها لا تسمَّى مِثْلاً للسُّفُن، لا لغةً، ولا حقيقةً؛ فإن المِثْليْن ما سَدَّ أحدهما مَسَدَّ الآخر. وحَقيقة المماثلة أن تكون بين فُلْكٍ وفُلْكٍ، لا بين جَملٍ وفُلْكٍ.
والثاني: أن قوله:" وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ "( يس: ٤٣ )عَقِبَ ذلك دليل على أن المراد الفُلْك، التي إذا ركبوها، قدرْنا على إغراقهم. فذكَّرهم بنعمه عليهم من وجهين: أحدهما: ركوبهم إياها. والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق“.
فثبت بما تقدم أن المِثْل غير المَثَل، وأن المِثْل غير الكاف؛ ولهذا لا يجوز أن يُفسَّر أحد هذه الألفاظ الثلاثة بالآخر.
وأما سر الجمع بين كاف التشبيه، والمِثْل، فهو أن الكاف تدخل على المِثْل، إذا كان المراد أن أحد المثلين، المتفقين في الجنس، أو المختلفين فيه، يشبه المِثْل الآخر في جهة، أو أكثر من جهات الحقيقة والماهيَّة. تأمل ذلك في قول عنترة بن شداد:
وما شَاقَ قلبي في الدُّجى غيرُ طائر **ينوح على غصنٍ رطيبٍ من الرَّنْد
به مثل ما بي فهو يخفي من الجوى **كمثل الذي أخفي ويبدي كالذي أبدي


الصفحة التالية
Icon