ج. فلنضرب لهذه الآية مثلا نتقرب به من فكر العرض " هب أن مجرما حكم عليه أن يلقى طعاما للأسد.. فحين يعرض الأسد على هذا المحكوم من وراء ستار ستلقي رؤية الأسد في القلب رهبة وفزعا والأسد بعد جاثم ساكن لم ير المحكوم.. لكن لو عرض المحكوم على الأسد وبدأ الأسد يكاد ينشق من الغيظ والغضب وبدا كأنه يريد أن يثب عليه لولا القيود ولولا عدم انقضاء أمد الحكم.. لكان هذا الموقف أشد فزعا في النفس وأشد رهبة وخوفا في القلب على هذا المحكوم إذ حينها ستكون الرهبة مع رؤية ثورة هذا الوحش الكاسر.. وهذه الحالة كحالة أصحاب جهنم إذ حكم عليهم أنهم من أصحاب النار.. لكن لما كان عذاب الله مضاعفا كما كانت رحمته وكرمه لأصحاب الجنة مضاعفة :﴿ قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ﴾ جعل الكفار يرون النار فانخلعت القلوب من الهول.. وجعل النار تراهم فتزداد استعارا برؤيتهم وهو القائل :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ﴾ فتحترق حينئذ أفئدتهم من هول المشهد وهم بعد لم يلقوا فيها لذلك قال تعالى :﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ﴾ أي أنها دائمة الاستعار والثوران والغيظ لكونها ترى الكفار غدوا وعشيا.. وهذا هو أسلوب الله تعالى في العذاب وهو القائل :﴿ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ﴾..
١١. قال تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ﴾الإسراء.. هنالك سور استهلها القرآن بالحمد كالفاتحة والأنعام وفاطر وسور أخر قد استهلها الله بالتبريك كالملك والفرقان وسورة الإسراء ككل السور التي استهلها القرآن بصيغة تضاف لبقية الصيغ القرآنية فما الحكمة من ( سبحان )في مستهل الإسراء.. ؟؟؟
على الرغم من أن المسألة تكاد تكون بديهية فهي مع ذلك تستلزم شيئا من الإيضاح.. إذ أن (سبحان) تعني التنزيه.. أي نزه الذي أسرى بعبده.. لماذا.. لأن الحق تعالى سينتقل بعد كلمة (سبحان ) لقضية قد يختلج بها الفكر ويضطرب لها القلب إذ فيها من الخروج عن المألوف الإنساني والخروج عن حدود المعقول ما قد يبتعث في النفس البواعث ويقدح في السريرة الهواجس فجاءت ( سبحان ) هنا لترفع الإنسان من غيابة هذا الجب.. وليستقبل الفكر والقلب هذه القضية وهو منزه الله تعالى عن هذه القياسات العقلية الضيقة وهذه الدخائل..
١٢. قال تعالى :﴿ وكذلك سولت لي نفسي ﴾.. طه.. ٩٦ وقال تعالى ﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ﴾.. المائدة ٣٠.. سولت.. وطوعت.. هل يستوي المعنى إن وضعنا سولت بدل طوعت أو العكس علما أن كليهما مما يختلج في النفس.. ؟؟؟
بالتأكيد لا يستوي المعنى إذ (سولت ) تعني زيّنت، وزينت لا تكون إلا في أمر قد يحبه الإنسان فزينته النفس أي ( سولته ).. أما طوعت فتعني سهلت، وسهلت لا تكون إلا في أمر قد استصعبته النفس ولو كان سهلا ما سهلته.. فسولت فيما قد يحبب للنفس وطوعت فيما لا يمكن أن يحبب للنفس كما طوعت له قتل أخيه وقتل الأخ مما لا يكون محببا للنفس أبدا.. وقد يقال فهذا القول يتناقض مع قوله تعالى في سورة يوسف " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا "وهم قد ألقوا أخاهم في غيابت الجب فكيف ذلك.. قلنا الأمر الذي زينته النفس ( سولته) هنا ليس ما فعلوه بيوسف بل بالذي بعدها أي " يخل لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعده قوما صالحين "
١٣. قال تعالى:﴿ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾.. البقرة.. ٧.. وقال تعالى﴿قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير اله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون﴾.. الأنعام٤٦.. في الأولى كان الختم على القلب أول شيء.. وفي الثانية كان الختم على القلب آخر شيء.. لماذا.. ؟؟؟
في الأولى وصف للكافرين الذين لا يرتجى هدايتهم لقوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾البقرة.. فقدم الحق سبحانه ختم القلب باعتباره فصل الخطاب في مثل هذه الحالة.. أما في الثانية فخطاب لمن قد تأخذ الموعظة مأخذها في نفوسهم وتبلغ الهدابة قلوبهم فجاء تعالى بتدرج مراحل الضلال الذي قد يفضي لختم القلب في نهاية الأمر فقدم أخذ السمع باعتباره وسيلة إدراك لها مساحتها في الهداية ومن ثم البصر وهو كذلك أيضا وانتهى بختم القلب فيما لو لم يستدرك السمع والبصر هذا القلب..
١٤. قال تعالى:﴿وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى﴾. طه ٧ وهل هنالك أخفى من السر.. ؟؟؟
نعم.. هنالك ما هو أخفى من السر ذلك لأن السر قد يشترك به الاثنان والثلاثة.. أما ما هو أخفى منه فهو ما كان مستترا في غياهب النفس فلا يطّلع عليه إلا صاحبه فهذا أخفى من السر.