وضمن السياق العام للعناصر الخمسة التي أوردناها فسنجد أن الآية (١٣) من سورة "العنكبوت" (بداية رسم الصورة الفنية بعد أن كانت الآية ١٢ مقدمة موضوعية لابد منها) وتتحدث الآية (١٣) عن حلقة من حلقات السلسلة الرسالية، وتجربة من تجارب الرسل على هذه الأرض، فهي تتحدث عن رسالة نوح عليه السلام: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عاماً﴾..
وتنتهي قصة قوم نوح عليه السلام بالحديث عن النهاية المأساوية للمكذبين: ﴿... فأخذَهُمُ الطوفانُ وهم ظالمون﴾...
... ويتم القصد والغرض من إيراد القصة بأن تطلب الآيات ممن يأتي من بعد أن يأخذ العبرة مما حدث، وان يتعظ بالآيات التي تُركت في ديار المكذبين: ﴿فأنجيناهُ وأصحابَ السفينةِ وجعلناها آيةً للعالمين﴾!!...
ويشير القرآن الكريم إلى العلامات التي تركها العقاب في ديار الظالمين، وتجعل الآيات الكريمة من تلك العلامات معالم بارزة في هذه الرواية وفي كل رواية، فهي تعني العبرة، وتعني قيام الحجة الإلهية واستمرارها على الخلق أجمعين ما بقيت تلك العلامات والآيات، حيث تقتضي العناية الإلهية قيام الحجة قبل وقوع العقاب ﴿وما كُنا مُعذبينَ حتى نبعثَ رسولا﴾!!...
وبعد أن يتم إغلاق الملف الأول (الحلقة الأولى في السلسلة) يتم فتح ملف آخر، إذا ما قرأناه بطريقة تكاملية لوجدنا أن له، تقريبا، نفس الملامح والتقاسيم، بل وله نفس العناصر الأساسية التي تحدثنا عنها﴿وإبراهيم إذ قالَ لقومهِ اعبدوا الله واتقوه...﴾... وهذا هو العنصر الأول من العناصر الخمسة التي ترسم ملامح الرواية الإنسانية!..
﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرِّقوه﴾وهذا هو العنصر الثاني... حيث التكذيب بما يجيء به الرسل!...
وهنا يجدر بنا التوقف قليلاً لنتعرف على خاصية مهمة يتميز بها النص القرآني الكريم، وهي الخاصية التي كانت سببا، في كثير من الأحيان، في إعاقة العقل البشري، بقدراته المحدودة، عن المتابعة الدقيقة لما يلقيه النص في الروع من معاني، بما يشير إلى أن "الحركة التركيبية للنص القرآني الكريم هي أسرع، وبما لا يقاس، من الحركة التفسيرية للعقل البشري"!... وتشتمل الحركة التركيبية الفريدة للنص القرآني على مجموعة من عمليات التفرع عن الأصل الواحد أو ما نطلق عليه بـ "السياق" ثم العودة إلى ذلك الأصل (أو السياق) مرة أخرى، ويكمن عجز العقل البشري في: عدم قدرته على التمييز بين نقاط التفرع عن الأصل ونقاط العودة إليه!!.. مما يجعل النص (من وجهة نظر العقل) وكأنه مجموعة غير متجانسة من الآيات؛ التي تعطي مجموعة غير متناسقة من الإشارات... مما ينتج عنه، في كثير من الأحيان، ضياع الخيط الأصلي الذي يشد أزر الرواية ويحدد اتجاهاتها!!...
وإذا ما طبّقنا مقولتنا حول "تفرع النص وعودته للتجمع من جديد" على الآيات الواقعة بين الآية رقم (١٦) والآية رقم (٢٣) من السورة ﴿وإبراهيم إذ قالَ لقومِهِ اعبدوا الله واتقوه ذلكم خيرٌ لكم إنْ كُنتم تعلمون﴾(الآية١٦)إنما تعبدون من دون الله أوثانا...(١٧) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم...(١٨) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده(١٩) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق...(٢٠) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء...(٢١) وما أنتم بمعجزين في الأرض...(٢٢) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي...(٢٣) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار..(٢٤)؛ وبالنظر للآيات المشار إليها فسنجد أنها تتحدث عن أمور فرعية ليست من أصل الرواية، لكنها ضرورية لرسم ملامحها على كل حال!!..
ولنتابع حركة الآيات المتفرعة عن الخط الأصلي للرواية في حلقتها الثانية، والتي تتحدث عن نبي الله إبراهيم، لتكون لنا نموذجا هاديا في كيفية استقراء الآيات... ومن استقرائنا للآيات المتفرعة سنلاحظ أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: هو أن التفاصيل الدقيقة الواردة في تجربة نبي الله إبراهيم إنما هي مجرد مثال يمكن أن ينطبق على تجارب الآخرين من أنبياء الله ورسله الكرام، لذا فلن تكون هناك حاجة لتكرار ذكرها في التجارب الآتية.
وثاني تلك الأمور: هو أن الآيات المتفرعة تحتوي في كثير من الأحيان على إشارات لا يمكن فهمها إذا ما انتزعت من سياقها، بل يتأتى ذلك فقط في حالة النظر إليها ضمن السياق العام الذي تطرحه الآيات، وهو الأمر الذي سنقوم به في سياق تعاملنا مع النموذج الذي بين أيدينا... وعلى سبيل المثال فإن الآية الكريمة: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق...﴾(الآية٢٠) وكذلك الآية الكريمة﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين﴾((٣٨) لا يمكن فهمهما إلا ضمن السياق العام الذي سنخلص إليه في نهاية هذا التحليل!!...
وبعد أن يكون التفرع في قصة إبراهيم قد أبعدنا قليلا عن الحبكة الأساسية للقصة؛ فسنجد النص وقد عاد ليلتحم وليتوحد مع خطه الأساسي من جديد: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه، إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يؤمنون﴾(٢٤)!!!...


الصفحة التالية
Icon