وقال سبحانه﴿ ربّ إني وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا﴾ وهنا لا تقف كلمة اشتعل عند معنى انتشر فحسب، ولكنها تحمل معنى دبيب الشيب في الرأس في بطء وثبات، كما النار في الفحم مبطئة ولكن في دأب واستمرار، حتى إذا تمكنت من الوقود اشتعلت في قوة لا تبقى ولا تذر كما يحرق الشيب ما يجاوره من شعر الشباب، حتى لا يذر شيئا إلا التهمة واتى عليه، وفي إسناد الاشتعال إلى الرأس مايوحى بهذا الشمول الذي التهم كل شي في الرأس وقد تحثنا فيما مضى عما توحى به كلمة تنفس من إثارة معنى الحياة التي تغمر الكون عند مطلع الفجر.
وقال تعالى ﴿وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون﴾ فكلمة نسلخ تصور للعين انحسار الضوء عن الكون قليلا قليلا ودبيب الظلام إلى هذا الكون في بطء حتى إذا تراجع الضوء ظهر ما كان مختفيا من ظلمة الليل وقال تعالى ﴿ وفي عاد إذا أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شي أتت عليه إلا جعلته كالرميم﴾ ففي العقم ما يحمل إلى النفس معنى الاجداب الذي تحمله الريح معها.
وكثر في القرآن اخذ الكلمات الموضوعة للأمور المحسوسة يدل بها على معقول معنوى يصير به كأنه ملموس مرئي فضلا عن إيحاءات الكلمة إلى النفس خذ مثلا قوله تعالى﴿ وإذا اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينيه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس مايشترون﴾ ألا ترى أن كلمة نبذ فضلا عن أنها تدل على الترك توحي إلى نفس القارئ معنى الإهمال والاحتقار لان الذي ينبذ وراء الظهر إنما الحقير المهمل، وقوله تعالى﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ فكلمة القذف توحي بهذه القوة التي يهبط بها الحق على الباطل وكلمة يدمغه توحى بتلك المعركة التي تنشب بين الحق والباطل حتى يصيب رأسه ويحطمه فلا يلبث أن يموت وتأمل قوة التعبير بالظلمات والنور يراد بها الكفر والإيمان في قوله تعالى﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور﴾ وجمع الظلمات يصور لك إلى أي مدى ينبهم الطريق أمام الضال، فلا يهتدى إلى الحق وسط هذا الظلام المتراكم ومن ذلك قوله تعالى﴿ الا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾ فانك تشعر في كلمة العقدة بهذا الربط القلبي الذي يربط قلبي الزوجين.....
ويطول بي القول إذا أنا وقفت عند كل استعارة من هذا اللون وحسبي أن اشير الى بعض نماذجه كقوله تعالى﴿ فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين﴾ فكلمة الصدع بمعنى الجهر توحى بما سيكون من اثر هذه الدعوة الجديدة من إنها ستشق طريقها إلى القلوب وتحدث في النفوس اثر قويا وقوله تعالى﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا﴾ فاي صلة
متينة ذلك الدين الذي يربطك بالله، يثير هذا المعنى في نفسك هذا التعبير القوى المصور حبل الله
وقوله تعالى﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون﴾ وقوله تعالى﴿ لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا﴾
وقوله تعالى﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره﴾
وتأمل جمال إفراغ في قوله سبحانه﴿ ربنا افرغ علينا صبرا﴾ وما يثيره في نفسك من الطمأنينه التي يحس بها من هدأ جسمه بماء يلقي عليه وهذه الراحه تشبهها تلك الراحة النفسية ينالها من منح هبة الصبر الجميل
- ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ المستعارة انه استخدم إفراغ وهي توحي باللين والرفق عند حديثه عن الصبر
- وهو من رحمته فإذا جاء إلى العذاب استخدم كلمة صب فقال﴿ فصب عليهم ربك سوط عذاب ﴾ وهي مؤذنه بالشدة والقوة معا
- وتأمل كذلك قوة كلمة زلزلوا في قوله تعالى﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصرالله ألا أن نصر الله قريب﴾
- ولو انك جهدت في أن تضع كلمة مكانها ما استطاعت أن تؤدى معنى هذا الاضطراب النفسي العنيف وقد تحدثنا فيما مضى عن جمال التعبير في قوله تعالى﴿ ينقضون عهدالله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به يوصل﴾
- وقوله سبحانه﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم﴾
- وقد يستمر القرآن في رسم الصورة المحسوسة بما يزيدهما قوة تمكن لها في النفس، كما ترى ذلك في قوله تعالى﴿ اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين﴾
- فقد اكمل صورة الشراء بالحديث عن ربح التجارة والاهتداء في تصريف شؤونها
- وقد يحتاج المرء إلى تريث يدرك به روعة التعبير كما تجد ذلك في قوله تعالى﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾


الصفحة التالية
Icon