قال تعالى :" فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة " سورة البقرة.
هذه الآية كناية عن عدم العناية عند ظهور المعجزة. أي لا تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة تأمل هذه الكناية و مدى ما فيها من جمال التعبير، و روعة التصوير، و لطافة الإيجاز. إنها عبرت عن العناد عند ظهور المعجزة بالنار العظيمة، و هذا التعبير فيه ما فيه من شدة التنفيذ و قوة التأثير، ثم أن هذا التعبير قد أبرز لك هذا المعنى الفكري المجرد في صورة محسوسة ملموسة و لم يقف عند هذا الحد من التجسيم والتشخيص بل تعداه إلى التصيير و التحويل. فحوله على نار ملتهبة متأججة متوهجة بل تعداه إلى أعجب من هذا التصوير، و لا أروع و ألذ من هذا التعبير ؟ إنه الإعجاز يلبس ثوب الكناية فتنحني له هامات البلغاء، و يثير في النفس أسمى آيات الإعجاب.
قال تعالى :" و لكن لا تواعدوهن سراً " سورة البقرة ٢٣٥.
في هذه الآية كنى القرآن الكريم عن الجماع بالسر. تأمل هذه الكناية و مدى ما فيها من اللطائف و الأنوار و الأسرار. تأمل هذه الكناية و مدى ما فيها من اللطائف و الأنوار و الأسرار. إن في الكناية بالسر عن الجماع من ألوان الأدب و التهذيب ما يعجز عن وصفه أساطين البيان، و فيها من جمال التعبير ما يسترق الأسماع و يهز العواطف و يحرك الأحاسيس و المشاعر. لقد ألبست الجماع الذي يتم في السر ثوب السر فذهبت بسر الفصاحة و البيان. أبعد هذا يقال أن الكناية في القرآن يستطيع أن يحاكيها بنو الإنسان ؟ أبداً و الله إن بني الإنسان من المعجز بحيث لا يمكنهم فهم ما تنطوي عليه الكناية في القرآن من الأسرار.
قالى تعالى :" إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم " سورة آل عمران.
كنى القرآن الكريم في هذه الآية بنفي التوبة عن الموت على الكفر. تأمل هذه الكناية و مدى ما فيها من الجمال و الروعة. ألا تحس أن التعبير الذي كنى به القرآن أجمل من أي تعبير آخر ؟ ألا تحس أن في هذا التعبير إيجاز لطيف ؟ إن التعبير بجماله و إيجازه و بديع نظمه فوق مقدور البشر.
قال تعالى :" فجعلهم كعصف مأكول" سورة الفيل. كنى القرآن الكريم " بالعصف المأكول " عن مصيرهم إلى العذر فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك.
تأمل هذه الكناية إن فيها من ألوان الأدب و الجمال ما لا يستقل به بيان، و فيها من الإعجاز اللطيف ما يعجز عن وصفه مهرة صناع الكلام. أما الأدب و الجمال ففي التعبير عن العذرة بالعصف المأكول و هذا التعبير مما أنفرد به القرآن فلا يوجد في غيره، و أما الإيجاز اللطيف ففي اختصار مقدمات لا أهمية لها بالتنبيه على النتيجة الحاسمة التي يتقرر فيها المصير. و فيها زيادة على ذلك التلازم الوثيق بين اللفظ و المعنى الكنائي الذي لا يتخلف أبدا فإن العصف المأكول لابد من صيرورته إلى العذرة.
فالمعنى لا يؤدي إلا بهذا اللفظ لا يصلح لهذا المعنى حتى لتكاد تصعب التفرقة بينهما فلا يدري أيهما التابع ؟ و أيهما المتبوع ؟ و من هنا يأتي الإعجاز.
قال تعالى :" و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا " سورة الإسراء. كنى القرآن الكريم في هذه الآية بغل اليد إلى العنق عن البخل، و ببسطها كل البسط عن الإسراف. تأمل الكنايتين تجد فيهما من روائع البيان ما لا يحيط به فكر إنسان فيهما جمال في التعبير، و روعة في التصوير، و إيجاز و تأثير، و تنفير.
حدثني بربك ألا ترى أن التعبير عن البخل باليد المغلولة إلى العنق فيه تصوير محسوس لهذه الخلة المذمومة في صورة بغيضة منفرة ؟ فهذه اليد التي غلت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد، و هو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد، وهو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد بإنفاق و لا عطية. و التعبير ببسطها لك البسط يصور هذا المبذر لا يبقى من ماله على شيء كهذا الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء. و هكذا استطاعت الكناية أن تنقل المعنى الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء. و هكذا استطاعت الكناية أن تنقل المعنى قوياً مؤثراً ثم تأمل التلازم الوثيق الذي لا يتخلف أبداً بين التعبير و المعنى الكنائي. إن هذا التلائم يدلك على أن المعنى الكنائي لا يمكن تأديته و تصويره إلا بهذا التعبير، و أن هذا التعبير لا يصلح إلا لهذا المعنى. هل في مقدور البشر أن يحاكوا هذا الأسلوب ؟
إعجاز في نغم القرآن
إنك إذا قرأت القرآن قراءة سليمة، و تلاوة صحيحة. أدركت أنه يمتاز بأسلوب. إيقاعي ينبعث منه نغم ساحر يبهر الألباب، و يسترق الأسماع، و يسيل الدموع من العيون. و يستولي على الأحاسيس و المشاعر، و أن هذا النغم يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار و الفواصل السريعة، و مواضع التصوير و التشخيص بصفة عامة، و يتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال و لكنه ـ على لك حال ـ ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني. إنه تنوع موسيقي الوجود في أنغماه و ألحانه.


الصفحة التالية
Icon