الشيء أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك متجاوب مع فطرتك، صريح في مكاشفتك بمالك أو ما عليك، متلطف في إقناعك، فما تجد بداً من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقلبه. ولا تحسبن هذا الوصف متأثراً بمواريث التدين التي انتقلت إلينا من الأولين فإن الكفار أنفسهم أدركوا أن القرآن متباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدي سماعه. فقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من زعماء الكفر في مكة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى ما يتلو من هذا القرآن فلما أنصت وتدبر، كأنما رق له قلبه، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك إياه، فإنك أتيت محمداً وملت إلى دينه..!! قال الوليد مستنكرا عرض المال عليه لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك، فيعلمون أنك مكذب له وكاره. قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله محمد شيئا من هذا، وواله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وغضب أبو جهل لهذه الشهادة، فإن الصدق في هذه القضية لا يعنيه، بل يؤذيه!! والعراك على الرياسة في هذه البيئات يذهل عن شئون الكفر والإيمان. فليكن محمد صادقاً. وليكن كلامه وحيا. بيد أن المصلحة القبلية تقضي بكتمان أمره، وانتقاص شخصه. ولذلك عاد أبو جهل يلح على الوليد: لا يرضي عنك قومك حتى تقول فيه! فقال الوليد: دعني أفكر. وفكر الوليد، ثم أحب أن يكون منطقيا مع نفسه فقال: هذا سحر!! ولعله يقصد بالسحر ما جاءت به قوى خفية، لا يعرف الناس عادة حقيقتها. وفي هذا الحوار نزل قوله عز وجل: [﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا "١١" وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا "١٢" وَبَنِينَ شُهُودًا "١٣"
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا "١٤" ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ "١٥" كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا "١٦" سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا "١٧" إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ "١٨" فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ "١٩" ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ "٢٠" ثُمَّ نَظَرَ "٢١" ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ "٢٢" ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ "٢٣" فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ "٢٤" إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ "٢٥" سَأُصْلِيهِ سَقَرَ "٢٦" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ "٢٧"﴾] والواقع أن من الكذب الشائن على الفطرة والبداهة، وعلى العقل والرواية، أن يزعم زاعم بأن القرآن كلام عادي، وأن أدبياً راسخ القدم في البلاغة يستطيع أن يجئ بمثله. وقد تساءل كثيرون عن أسرار هذا التفرد الذي اتصف به القرآن الكريم. ولاشك أن المعاني التي يتضمنها والتي نسج سداها ولحمتها من الحق الخالد أساس لهذا الإعجاز، بيد أن المعنى على جلاله إن لحقه قصور في صورته وأثره، نقصت قيمته، وطاشت دلالته. وهناك معان جميلة في نفوس أصحابها، ولو استبانت على السطور لأشرقت بها الصحائف.. ولكنها مشاعر في النفوس فحسب. إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.. جعل اللسان على الفؤاد دليلا فتصوير المعنى الصادق حتى يبرز في الحروف كما يبرز الجمال الإنساني في أبهى حلله، وحتى ينتقل سناه إلى الأفئدة نفاذاً أخاذاً ركن ركين في خدمة الحقيقة، وبسط سلطانها، وإزاحة العوائق من أمامها. وقد تعرض لفيف من علماء الإسلام لشرح الإعجاز البياني في القرآن الكريم. وكنت أنا نفسي كثير الطواف حول هذا الجمال البياني، أسرح فيه الطرف وأردد فيه الفكر، لكني كنت كالذي شغله الإعجاز بالجمال، عن وضع تفاسير له، أو لعلني حاولت ثم غلبني القصور، فتوقفت مؤقتاً حتى تسنح فرصة. إلى أن قرأت للمرحوم العلامة الشيخ "محمد عبد الله دراز" كتابه "النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن" فرأيت الرجل وفى هذا المجال حقه،