و لذا كان أكثر الميادين الفكرية التي يتسابق فيها أرباب الفصاحة و البيان هي ميادين الفخر و الحماسة و الموعظة و المدح و الهجاء، و كانت أقل هذه الميادين اهتماماً منهم، و حركة بهم ميادين الفلسفة و التشريع و مختلف العلوم، وذلك هو السر في أنه قلما تجد الشعر يقتحم شيئاً من هذه الميادين الخالية الأخرى.
و مهما رأيت بليغاً كامل البلاغة و البيان، فإنه لا يمكن أن يتصرف بين مختلف الموضوعات و المعاني على مستوى واحد من البيان الرفيع الذي يملكه، بل يختلف كلامه حسب اختلاف الموضوعات التي يطرقها، فربما جاء بالغاية ووقف دونها، غير أنك لا تجد هذا التفاوت في كتاب الله تعالى، فأنت تقرأ آيات منه في الوصف، ثم تنتقل إلى آيات أخرى في القصة، و تقرأ بعد ذلك مقطعاً في التشريع و أحكام الحلال و الحرام، فلا تجد الصياغة خلال ذلك إلا في أوج رفيع عجيب من الإشراق و البيان. و تنظر فتجد المعاني كلها لاحقة بها سامخة إليها. و دونك فأقرأ ما شئت من هذا الكتاب المبين متنقلا بين مختلف معانيه، و موضوعاته لتتأكد من صدق ما أقول، ولتلمس برهانه عن تجربة و نظر [عن من كتاب روائع القرآن : للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ].
و يقول في معرض حديثة عن " روح التركيب " في أسلوب القرآن : لا ترى غير صورة واحدة من الكمال، و إن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب و موضع التأليف و ألوان التصوير و أغراض الكلام " [إعجاز القرآن ص٢٧٤ و كتاب تاريخ الأدب العربي للرافعي ٢٤١].
و يقول في معرض حديثه عن " روح التركيب " في أسلوب القرآن :"و هذه الروح لم تعرف قط في كلا عربي غير القرآن، و بها انفرد نظمه، و خرج مما يطيقه الناس، و لولاها لم يكن بحيث هو، كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ نراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة، و تأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم، فمن هنا تعلق بعضه على بعض، و خرج في معنى تلك الروح صفة واحدة هي صفة إعجازه في جملة التركيب، و أن العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب : كالقصص و المواعظ و الحكم و التعليم، ضرب الأمثال إلى نحوها مما يقدر عليه.
و لولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة على مقدار ما بين هذه المعاني، و موقعها في النفوس، و على مقدار ما بين الالفاظ و الأساليب التي تؤديها حقيقة و مجازا، كما تعرف من كلام البلغاء، عند تباين الوجوه التي يتصرف فهيا، على أنهم قد رفهوا عن أنفسهم و كفوها أكبر المؤنة فلا يألون أن يتوخوا بكلامهم إلى أغراض و معان يعذب فيها الكلام و يتسق القول و تحسن الصنعة مما يكون أكبر حسنة في مادته اللغوية، و ذلك شائع مستفيض في مأثور الكلام إلي غيره، و افضوا بالكلام إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفا إلى وجه
و على أننا لم نعرف بليغاً من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع و تقرير النظر، و تبيين الأحكام و نصب الأدلة و أقام الأصول و الاحتجاج لها و الرد على خلافها إلا جاء بكلام نازل عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب، و أنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر و الأسلوب الرائع و الصنعة المحكمة و البيان العجيب، والمعرض الحسن فإذا صرت إلى ضروب من تلك المعاني، وقعت ثمة على شيء كثير من اللفظ المستكره، والمعنى المستغلق، و السياق المضطرب و الأسلوب المتهافت و العبارة المبتذلة، و على النشاط متخاذلا، و العرى محلولة، والوثيقة واهنة " [كتاب إعجاز القرآن للرافعي ].
الخاصة الثالثة : أن معانيه مصاغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على اختلاف مداركهم و ثقافتهم و على تباعد أزمنتهم و بلدانهم، و مع تطور علومهم و اكتشافاتهم.
خذ آية من كتاب الله مما يتعلق بمعنى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط من الناس يتفاوتون في المدارك، والثقافة، فستجد ان الآية تعطي كلا منهم معناها بقدر ما يفهم، و أن كلا منهم يستفيد منها معنى وراء الذي انتهي عنده علمه.
و في القرآن الكثير من هذا و ذاك فلنعرض أمثلة منه :
من القبيل الأول قوله تعالى :" تبارك الذي جعل في السماء روجاً و جعل فيها سراجاً و قمراً منيراً " فهذه تصف كلا من الشمس و القمر بمعنيين لهما سطح قريب يفهمه الناس كلهم، و لها عمق يصل إليه المتأملون و العلماء، و لها جذور بعيدة يفهمها الباحثون و المتخصصون، والآية تحمل بصياغتها هذه الدرجات الثلاثة للمعنى، فتعطي طاقته و فهمه.
فالعامي من العرب يفهم منها ان كلا من الشمس و القمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير عنه بالنسبة لكل منهما تنويعاً للفظ، و هو معنى صحيح تدل عليه الآية، و المتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدل على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة فلذلك سماها سراجاً، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه.
الخاصة الرابعة : و هي ظاهرة التكرار.
وفي القرآن من هذه الظاهرة نوعان :
أحدهم : تكرار بعض الألفاظ او الجمل.
و ثاينهما : تكرار بعض المعاني كالأقاصيص، والأخبار.