فالنوع الأول : يأتي على وجه التوكيد، ثم ينطوي بعد ذلك على نكت بلاغية، كالتهويل، والإنذار، التجسيم و التصوير و للتكرار أثر بالغ في تحقيق هذه الأغراض البلاغية في الكلام، و من أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى :" الحاقة ما الحاقة، و ما أدراك ما الحاقة، كذبت ثمود و عاد بالقارعة " و قوله تعالى :" سأصليه سقر، و ما أدراك ما سقر، لا تبقي و لا تذر " و قوله تعالى : أولئك الذين كفروا بربهم، و أولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك أصحاب النار " و قوله تعالى :" و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، و ما أنت بمسمع من في القبور ".
و النوع الثاني : و هو تكرار بعض القصص و الأخبار يأتي لتحقيق غرضين هامين :
الأول : إنهاء حقائق و معاني الوعد و الوعيد إلى النفوس بالريقة التي تألفها، و هي تكرار هذه الحقائق في صور و أشكال مختلفة من التعبير و الأسلوب، ولقد أشار القرآن إلى هذا الغرض بقوله :" و لقد صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا" [سورة طه ١١٣]. الثاني : إخراج المعنى الواحد في قوالب مختلفة من الألفاظ و العبارة، و بأساليب مختلفة تفصيلاً و إجمالاً، الكلام في ذلك حتى يتجلى إعجازه، و يستبين قصور الطاقة البشرية عن تقليده أو اللحاق بشأوه، إذ من المعلوم أن هذا الكتاب إنما تنزل للإقناع العقلاء، من الناس بأنه ليس كلام بشر، و لإلزامهم بالشريعة التي فيه، فلابد فيه من الوسائل التي تفئ بتحقيق الوسيلة إلى كلا الأمرين.
و من هنا كان من المحال أن تعثر في القرآن كله على معنى يتكرر في أسلوب واحد من اللفظ، و يدور ضمن قالب واحد من التعبير، بل لابد أن تجده في كل مرة يلبس ثوباً جديداً من الأسلوب، و طريقة التصوير و العرض، بل لابد أن تجد التركيز في كل مرة منها على جانب معين من جوانب المعنى او القصة و لنضرب لك مثالاً على هذا الذي نقول : بقصة موسى عليه السلام إذ أنها أشد القصص في القرآن تكراراً، فهي من هذه الوجهة تعطى فكرة كاملة على هذا التكرار.
وردت هذه القصة في حوالي ثلاثين موضعاً، ولكنها في كل موضع تلبس أسلوباً جديداً و تخرج أخراجاً جديدا يناسب السياق الذي وردت فيه، و تهدف إلى هدف خاص لم يذكر في مكان آخر، حتى لكأننا أمام قصة جديدة لم نسمع بها من قبل.
الخاصة الخامسة :
و هي تداخل أبحاثه، و مواضيعه في معظم الأحيان فإن من يقرأ هذا الكتاب المبين لا يجد فيه ما يجده في عامة المؤلفات و الكتب الأخرى من التنسيق و التبويب حسب المواضيع، و تصنيف البحوث مستقلة عن بعضها، و إنما يجد عامة مواضيعه و أبحاثه لاحقة ببعضها دونما فاصل بينهما، وقد يجدها متداخل في بعضها في كثير من السور و الآيات.
و الحقيقة أن هذه الخاصة في القرآن الكريم، إنما هي مظهر من مظاهر تفرده، و استقلاله عن كل ما هو مألوف و معروف من طرائق البحث و التأليف.
المظهر الثاني :
المفردة القرآنية:
إذا تأملت في الكلمات التي تتألف منها الجمل القرآنية رأيتها تمتاز بميزات ثلاثة رئيسية هي :
١ ـ جمل وقعها في السمع.
٢ـ اتساقها الكامل مع المعنى.
٣ـ اتساع دلالتها لما لا تتسع له عادة دلالات الكلمات الأخرى من المعاني و المدلولات. د
و قد نجد في تعابير بعض الأدباء و البلغاء كالجاحظ و المتنبي كلمات تتصف ببعض هذه الميزات الثلاثة أما ان تجتمع كلها معا، و بصورة مطردة لا تتخلف أو تشذ فذلك مما لم يتوافر إلا في القرآن الكريم.
و إليك بعض الأمثلة القرآنية التي توضح هذه الظاهرة و تجليها :
أنظر إلى قوله تعالى في وصف كل من الليل و الصبح :" و الليل إذا عسعس و الصبح إذا تنفس " ألا تشم راحة المعنى واضحاً من كل هاتين الكلمتين : عسعس، و تنفس؟
ألا تشعر أن الكلمة تبعث في خيالك صورة المعنى محسوسا مجسماً دون حاجة للرجوع إلى قواميس اللغة ؟
و هل في مقدورك أن تصور إقبال الليل، وتمدده في الآفاق المترامية بكلمة أدق و أدل من " عسعس ".
و هل تستطيع أن تصور انفلات الضحى من مخبا الليل و سجنه بكلمة أروع من " تنفس ". ؟
أقرأ قوله تعالى :" يأيها الذين آمنوا، مالكم إذا قيل لكم : انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض " [سورة التوبة ].
و ادرس الأداء الفني الذي قامت به لفظة " أثاقلتم " بكل ما تكونت به من حروف، و من صورة ترتيب هذه الحروف، و من حركة التشديد على الحرف اللثوية " الثاء " و المد بعده، ثم مجيء القاف الذي هو أحد حروف القلقلة، ثم التاء المهموسة، والميم التي تنطبق عليها الشقتان، ويخرج صوتها من الأنف، ألا تجد نظام الحروف، وصورة أداء الكلمة ذاتها أوحت إليك بالمعنى، قبل أن يرد عليك المعنى من جهة المعاجم. ؟ ألا تلحظ في خيالك ذلك الجسم المثاقل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط في أيديهم في ثقل ؟ ألا تحس أن البطء في تلفظ الكلمة ذاتها يوحي بالحركة البطيئة التي تكون من المثاقل ؟