جرب أن تبدل المفردة القرآنية، و تحل محلها لفظة " تثاقلتم" ألا تحس أن شيئاً من الخفة و السرعة، بل و النشاط أوحت به " تثاقلتم " بسبب رصف حروفها، و زوال الشدة، وسبق التاء قبل الثاء ؟ إذن فالبلاغة تتم في استعمال " أثاقلتم " للمعنى المراد، ولا تكون في " تثاقلتم ".
المظهر الثالث :
الجملة القرآنية و صياغتها
إن دراسة الجملة القرآنية تتصل اتصالا مباشراً بدراسة المفردة القرآينة لأن هذه أساس الجملة، و منها تركيبها، و إذا كان علماء البلاغة يجعلون البلاغة درجات، فإنهم مقرون دون جدل أن صياغة العبارة القرآنية في الطرف الأعلى من البلاغة الذي هو الإعجاز ذاته. و للإعجاز فيها وجوه كثيرة.
فمنها : ما تجده من التلاؤم و الاتساق الكاملين بين كلماتها، و بين ملاحق حركاتها، و سكناتها، فالجملة في القرآن تجدها دائماً مؤلفة من كلمات و حروف، و أصوات يستريح لتألفها السمع و الصوت و المنطق، و يتكون من تضامها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع، ما كان ليتم لو نقصت من الجملة كلمة أو حرف أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال.
أقرأ قوله تعالى :" ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، و فجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر " و تأمل تناسق الكلمات في كل جملة منها، ثم دقق نظرك، و تأمل تألف الحروف الرخوة مع الشديدة و المهموسة و المجهورة و غيرها، ثم حالو تمعن في تأليف و تعاطف الحركات و السكنات و المدود اللاحقة ببعضها، فإنك إذا تأملت في ذلك، علمت أن هذا الجملة القرآنية. إنما صبت من الكلمات و الحروف و الحركات في مقدار، و أن ذلك إنما قدر تقديراً بعلم اللطيف الخبير و هيهات للمقاييس البشرية أن تضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة. و منها : إنك تجد الجملة القرآنية تدل بأقصر عبارة على أوسع معنى تام متكامل لا يكاد الإنسان يستطيع التعبير عنه إلا بأسطر و جمل كثيرة ن دون أن تجد فيه اختصاراً مخلا، أو ضعفاً في الأدلة. أقرأ قوله تعالى :" خذ العفو، و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين " [ سورة الأعراف].
ثم تأمل كيف جمع الله بهذا الكلام كل خلق عظيم، لأن في أخذ العفو صلة القاطعين و الصفح عن الظالمين.
و اقرأ قوله تعالى مخاطباً آدم عليه السلام :" أن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمأ فيها و لا تضحى " ثم تأمل كيف جمع الله بهذا الكلام أصول معايش الإنسان كلها من طعام و شراب و ملبس، و مأوى.
و أقرأ قوله تعالى :" و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عيه فألقيه في اليم و لا تخافي و لا تحزني إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين " و تأمل كيف جمعت هذه الآية الكريمة بين أمرين و نهيين و خبرين و بشارتين أما الأمرين فهما :" أرضعيه، و ألقيه في اليم، و أما النهيان فهما " لا تخافي "، و " لا تحزني ".
و أما الخبران فهما " أوحينا " و " خفت " و أما البشارتان فهما " أنا رادوه إليك " و " جاعلوه من المرسلين ".
و تأمل سورة " الكوثر " وهي أقصر سورة في القرآن إذ هي ثلاثة آيات قصار كيف تضمنت، على قلة آياتها الأخبار عن مغيبين : أحدهما : الأخبار عن الكوثر " نهر في الجنة " و عظمته و سعته و كثرة أوانيه، الثاني : الإخبار عن " والوليد بن المغيرة " و كان عند نزولها ذا مال وولد، ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده، وانقطع نسله
ومنها : أخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحس الملموس، ثم بث الروح و الحركة في هذا المظهر نفسه.
و مكمن الإعجاز في ذلك، أن الألفاظ ليست إلا حروفاً جامدة ذات دلالة لغوية على ما أنيط بها من المعاني، فمن العسير جداً أن تصبح هذه الألفاظ وسيلة لصب المعاني الفكرية المجردة في قوالب من الشخوص و الأجرام و المحسوسات، تتحرك في داخل الخيال كأنها قصة تمر أحداثها على مسرح يفيض بالحياة و الحركة المشاهدة الملموسة. أستمع إلى القرآن الكريم و هو يصور لك قيام الكون على أساس من النظام الرتيب و التنسيق البديع الذي لا يتخلف، و لا يلحقه الفساد، فيقول :" إن ربكم الله خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره إلا له الخلق و الأمر " [الأعراف ٥٤].
إنه يصور لك هذا المعنى في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك، و كأنها أمام آلات تتحرك بسرعة دائبة في نظام مستمر يعيها و تصورها الشعور و الخيال.
الباحثون في القرآن يجمعون على إعجازه
الجاحظ و رأيه في بلاغة القرآن :
الجاحظ هو مؤسس البيان العربي بلا منازع، هو أبو عثمان بن بحر بن محبوب الكتاني، المعروف بالجاحظ البصري ولد سنة ١٥٠ هـ و توفي سنة ٢٥٥هـ.