و من دقيق ذلك و خفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى :" و اشتعل الرأس شيباً " لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم نيسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجباً سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، و ليس الأمر على ذلك، و لا هذا الشرف العظيم، و لا هذه المزية الجليلة، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة و لكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، و يؤتي بالذي الفعل له في المعنى منصوباً بعده، مبينا أن ذلك الإسناد، و تلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني، و لما بينه و بينه من هذا الاتصال و الملابسة كقولهم : طاب زيد نفساً وقر عمرو عينا، و تصبب عرقاً، و كرم أصلاً، و حسن وجهاً و أشباه ذلك مما تجد منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه، و ذلك أنا نعلم أن " اشتعل " للشيب في المعنى، و أن كان هو الرأس فقط، كما أن ما أسند إليه، يبين أن الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك و توخى به هذا المذهب، أن تدع هذا الطريق فيه، و تأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحاً فتقول :" اشتعل الرأس " أو " الشيب في الرأس "، ثم تنظر هل تجد ذلك الحس، و تلك الفخامة. ؟ و هل ترى الروعة التي كنت تراها ؟ فإن قلت : فما السبب في أن كان " اشتعل " إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل، ولم بأن بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة ؟ فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس، الذي هو أصل المعنى، الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استقر به، و عم جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به. وهذا ما لا يكون إذا قيل :" أشتعل شيب الرأس " أو " الشيب في الرأس بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة، ووزان ذلك أن تقول : اشتعل البيت عليه، و
أخذت في طرفيه ووسطه، و تقول ": اشتعلت النار في البيت " فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، و أصابتها جانباً منه، فأما الشمول، وأن تكون قد استولت على البيت، و ابتزته فلا يعقل من اللفظ التفجير للعيون في المعنى، ووقع على الأرض في اللفظ ألبته. و نظير هذا في التنزيل قوله تعالى :" و فجرنا الأرض عيرانا " التفجير للعيون في المعنى وواقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشمول ها هنا مثل الذي حصل هناك.
و ذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها، و أن الماء كان يفور من كل مكان فيها و لو أجرى اللفظ على ظاهره فقيل :" و فجرنا عيون الأرض "، " أو العيون في الأرض " لم يفد ذلك، ولم يدل عليه، و لكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض، و تنبجس من أماكن فيها " [ دلائل الإعجاز للجرجاني ص٧٩ ـ٨٠].
من هذا النص يتضح لنا أن عبد القاهر يرجع جمال الاستعارة و شرفها ور وعتها في القرآن الكريم إلى نظمها العجيب البديع، و كم كنت أود أن يتناول هذا الأديب الذواقة الصور و الألوان البلاغية في القرآن بهذه العبارة الفياضة و بتك الطريقة البيانية الرائعة التي تشف عن الجمال الأخاذ و الإعجاب الرائع الذي يكمن في هذه الصور، و ينبع من نظمها العجيب الذي لا يقدر على مثله بشر، و لكنه وقف عند لمحة من لمحاته الجزئية شأنه في ذلك شأن غيره من بلغاء عصره.
من روائع التشبيه في القرآن الكريم :
قال تعالى :" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فأختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و أزينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلاً أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس " سورة يونس ٢٤
شبه القرآن حال الدنيا في سرعة تقضيها و انقراض نعيمها، و اغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء و أنبت أنواع العشب، وزين بزخارفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، و ظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة فكأنها لم تكن بالأمس
تأمل بعقلك و خيالك و ذوقك نظم الآية الكريمة أنها مكونة من عشر جمل لو سقط منها شيء اختل التشبيه، وانظر إلى هذه الجمل تجد كل جملة تعبر عن مشهد من مشاهد الحياة الدنيا، و قد رتبت ترتيبا عجيبا ً كان كل جملة منها تلد التي تليها، وقد تكونت كل جملة من طائفة من الكلمات تألفت بأصواتها و ظلالها و أجراسها فعبرت أصدق تعبير عن المشهد الذي استقلت به، أن نظمها أو حرفا بأخر اختل بمقدار، بحيث إذا أخرت أو قدمت أو غيرت كلمة بأخرى أو حرفا بآخر اختل المعنى، و تبعثرت مشاهد الصورة الدنيوية.
قال تعالى :" مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون على شيء مما كسبوا " [سورة إبراهيم : ١٨].
الذين كفروا في ضياعها، و ذهابها إلى غير عودة بهيئة رماد تذروه الرياح و تذهب به بددا إلى حيث لا يتجمع أبدأ.