ومضت القرون، وورث اللُّغة عن أهلها الوارثون، وكلما تطاول الزمان بين عصر المبعث والعصور التالية له، كان أهلها أشد عجزاً، وأقل طمعاً في هذا المطلب العزيز، لانحراف ألسنتهم وفساد سلائقهم، وكانت شهادة على إعجاز القرآن إلى أنْ تطوى صفحة هذا الوجود، ويرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
ونحن وإنْ كنا نذهب مذهب القائلين بأنَّ عجز القوم راجع إلى نظم القرآن وبلاغته، وشرف معناه ودقته؛ فما ذاك إلاَّ لأنه لم يصح وجه آخر لإعجاز القرآن سواه عند التحدي أول عهد العرب به، وأنَّ ما أضيف إلى إعجازه البلاغي من وجوه أخرى كالإعجاز الغيبي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، فإنما كان ذلك عندما اكتمل عقد القرآن، ونظر الباحثون إليه جملة.
ونحن لا ننكر هذه الوجوه أنْ تكون من آيات إعجازه؛ وإنما نريد أنْ نؤكد:
أولاً: أنَّ التحدي بالقرآن كان في حدود ما نزل من سوره في بداية الدعوة.
وثانياً: أنَّ التحدي كان في أدنى مراتبه بأقصر سورة منه.
وثالثاً: أنَّ التحدي كان بوجه مما برع القوم فيه شأن المعجزات.
فما وجه الإعجاز إذاً إنْ لم يكن الإعجاز البلاغي، فهو عنصر قائم في أقصر سورة من القرآن، وهو مناط براعة القوم، وهو أسبق من غيره تمثلاً فيما نزل.
وقد تضافرت الروايات التي سبقت من شهادات قريش حول القرآن على تأكيد هذا الوجه، فهو منبع السحر الذي وصفوا القرآن به، ومهوى أفئدتهم في الاستماع إليه وسبب الإيمان لمن اهتدى به([٢١]).
ويمكن ملاحظة ذلك في الآتي:
[١] تسجيل انبهارهم بأسلوب القرآن إدانة لكفرهم وتنديداً بمغالاتهم في الكفر مع اعترافهم بهذا الانبهار. هذا ما حكته الآيات من سورة المدثر التي تحدثت عن قصة الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي ﷺ وانبهر به.
قال السيوطي في "الإتقان"([٢٢]): "أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي ﷺ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون أنْ يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إنَّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكَّر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره". وقد قص الله تعالى علينا خبره في سورة المدثر([٢٣]).
[٢] تسجيل تخبطهم في تفسير سر بلاغة القرآن ومحاولتهم المستمرة للنيل منه، فمرة يقولون: إنه قول شاعر، ومرة يقولون: إنه أساطير الأولين، ومرة يزعمون أنَّ رجلاً أعجمياً يوحي به إلى محمد، ومرة يشبهونه بما يقوله شعراؤهم في المناسبات ويطلبون من محمد أنْ يأتي بالقرآن كله جملة واحدة، ومرة يطلبون منه أنْ يغيِّره ويبدلَّه. والقرآن يتعقب هذه المحاولات اليائسة ويذكرها:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)([٢٤]).
وقالوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)([٢٥]).
وقالوا: (أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ)([٢٦]).
وقالوا: (لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)([٢٧]).
وقالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)([٢٨]).
[٣] وسجَّل القرآن هذه المحاولات كلها للطعن في نبوة محمد ﷺ وفي كون القرآن وحياً، وأشار إلى هذا بقوله تعالى: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)([٢٩]).
[٤] فلما باءت محاولاتهم بالفشل المتتابع والإخفاق المتتالي، ادَّعوا أنهم قادرون على تأليف مثله؛ فأوقعوا أنفسهم في مأزق التحدي.
قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)([٣٠]).
[٥] ومن هنا بدأت أزمتهم الحقيقية، فقد نزل الوحي صريحاً في تحديهم بكل وضوح وقوة وتأكيد، وقد ورد التحدي في الآيات التي تقدم ذكرها([٣١]).
[٦] وقد اختلف العلماء في مسألة "القدر المعجز" من القرآن، وهذا الاختلاف هو اللبنة الأولى في صرح البحوث الإعجازية في تطورها التاريخي، والتي امتدت إلى أنْ أصبحت أساساً لما سُمِّيَ فيما بعد بـ "الإعجاز البياني".
أيَّاً ما كان الأمر، فقد بدأت بحوث اللُّغويين والمتكلمين في قضية الإعجاز تتبلور بشكل محدد قرب نهاية القرن الثاني الهجري بعد فتنة خلق القرآن التي أثيرت في عهد المأمون بصورة واضحة بتأثير من أحد النصارى وهو: عبد المسيح بن إسحاق الكندي، الذي رفض الدخول في الإسلام حين دعاه بعض رجال المأمون، وانتقد الإسلام وأثار قضية أنَّ القرآن مخلوق. وما خلفته هذه الفتنة من مآسٍ معروفة لا داعي هنا لإعادة طرحها أو الإشارة إليها.