غير أنَّ هذه الفتنة امتدت فيما تلا ذلك من سنوات، وتمخضت عن عدة اتجاهات فكرية تمثلت في تبني المعتزلة ممثلين في النَّظَّام
(ت ٢٠٠هـ) لفكرة "الصرفة"، ومعناها: أنَّ إعجاز القرآن كان بصرف الله تعالى للعرب أنْ يأتوا بمثله، وبهذا القول قال كثير من المعتزلة بعد ذلك، بل وقد قال به بعض المفسرين والعلماء من غير المعتزلة، إلاَّ أنَّ الرد على هذه الفكرة ميسور، لأن الإعجاز لو كان بالصرفة فمعناه أنَّ القرآن بذاته غير معجز والإعجاز قائم على قدرة الله تعالى. وهذا ما لا تدل عليه آيات التحدي.
قال العلاَّمة ابن عاشور([٣٢]): "فعجز جميع المتحدين عن الإتيان بمثل القرآن أمر متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توافر دواعيهم عليها".
وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنَّ الله تعالى صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي، لتقوم الحُجَّة عليهم، بمرأى ومسمع من جميع العرب، ويعرف هذا القول بالصرفة كما في "الموافق" للعضد و"المقاصد" للتفتازاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء، وهي مرة من الصرف، وصيغ بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص، فصارت كالعَلَم بالغلبة) ولم ينسبوا هذا القول إلاَّ إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض([٣٣]) في "الشفا"، وإلى النَّظَّام والشريف المرتضى، وأبي إسحاق الاسفرائني فيما حكاه عنهم عضد الدين في "المواقف"، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب "الفِصَل"([٣٤])، وقد عزاه صاحب "المقاصد" في شرحه إلى كثير من المعتزلة.
وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق، واقتصر عليه إمام الحرمين، وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في "المواقف"؛ فالتعليل لعجز المتحدين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغاً تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله.
[٨] كتب الإعجاز:
على الرغم من كون الجاحظ([٣٥]) معتزلياً وتلميذاً لإبراهيم النَّظَّام؛ فقد آمن بفكرة الإعجاز، ووضع كتاباً حول الإعجاز الأسلوبي للقرآن أسماه "نظم القرآن"، لم يصل إلينا، ولكن الجاحظ على طريقته في الإشارة إلى بعض كتبه في بعضها الآخر، أورد بعض الفقرات من هذا الكتاب في كتابيه: "الحيوان" و"البيان والتبيين" الموجودين حالياً، ويتلخص رأي الجاحظ في تبنيه للقول بالصرفة إلى جانب إيمانه بأنَّ العرب عجزوا عجزاً حقيقياً ـ مع محاولاتهم ـ عن الإتيان بمثل القرآن، بسبب طريقة نظم القرآن أي أسلوبه، ويعتبر كتاب الجاحظ المفقود هذا أول كتاب في إعجاز القرآن كما يقول الباقلاني (ت ٣٠٦هـ)، أشار إليه الرافعي وقال: "إنه سبق به عبد القاهر الجرجاني".
وفي القرن الرابع نجد رسالة للرماني في إعجاز القرآن، أشار الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن" إلى أنها تعتبر المرحلة الثالثة ـ بعد الجاحظ والواسطي ـ من مراحل القول بأنَّ الإعجاز أسلوبي بياني. وقد أشار ابن سنان الخفاجي في "سر الفصاحة" والسيوطي في "الإتقان"([٣٦]) إلى رسالة الرماني هذه. وهي تتميز بأنها نقلت مباحث الإعجاز خطوة إلى الأمام بتلخيص الرماني لكل ما قيل قبله من آراء في رسالته هذه.
وممن ساروا على هذا الطريق أيضاً الخطابي (ت ٣٨٨هـ)، في كتاب له عن إعجاز القرآن من جهة بلاغته، وقد اجتهد في تفصيل وجوه الإعجاز من جهة البلاغة، وخرج به عن دائرة النظم إلى دوائر أخرى من المعاني كالإخبار بما يحدث في المستقبل، وبهذا يكون البحث في الإعجاز قد بدأ ينتقل إلى طور جديد.
وابتداء من القرن الخامس الهجري، ومع اتساع مجالات علم الكلام([٣٧])، وتفشَّي بعض مظاهر الزندقة والإلحاد([٣٨])؛ بدأت البحوث في الإعجاز القرآني تتخذ مسارات أكثر تطوراً، وساعد على هذا التطور الازدهار المشهود الذي اتسمت به البحوث اللُّغوية والفنون الأدبية، ويُعَدُّ كتاب الباقلاني من أفضل نتاج هذا القرن في مجال الإعجاز، إلى جانب إنجازات عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظرية النظم وضعاً متكاملاً، وإليها يرجع الفضل في تطور علوم البلاغة بعد ذلك، بل إننا لا نغالي إذا قلنا: إنَّ ما جاءت به بعض المدارس اللُّغوية المعاصرة التي اهتمت بالأسلوب والتحليل البنائي للتراكيب اللُّغوية لم تضف كثيراً إلى ما نادى به عبد القاهر ـ كما سيتضح ذلك بعد قليل ـ.
أما كتاب الباقلاني فقد تلا ذلك من عصور، هو المنوال الذي نسج عليه المؤلفون في الإعجاز بعد عصر الباقلاني، وفيه ناقش مسألة في غاية الأهمية، وهي أنَّ القرآن لم يجيء معجزاً للكفار في عصر النبي ﷺ فقط؛ بل إنَّ إعجازه يشمل كل العصور التالية، والدليل على ذلك
ـ في رأيه ـ أنَّ أسلوب القرآن سيظل أرقى من كل الأساليب مهما تطورت.
كما فرَّق الباقلاني بين إعجاز القرآن وإعجاز غيره من الكتب السماوية، فأوضح أنَّ إعجاز تلك الكتب مقصور على الإخبار بالغيب فقط، والقرآن إعجازه متعدد الجوانب([٣٩]).


الصفحة التالية
Icon