أما عبد القاهر فقد بنى نظريته في النظم على أساس لغوي نحوي بحت، فهو في كتابه: "دلائل الإعجاز" يوضح جوانب نظريته تلك توضيحاً كافياً ويرد على مخالفيها. وملخص ما ذهب إليه أنَّ البلاغة التقليدية تقوم على حسن اختيار الألفاظ، فيتقوى المعنى بما يبذله المنشئ للأدب من جهد في التقديم والتأخير والاستعارة.
أما القرآن فإنه يقوم بالأساس على فكرة أداء المعنى المراد بصورة جمالية مؤثرة في النفس من خلال العلاقات اللُّغوية (صوتياً بين الحروف، ونحوياً بين الكلمات، وصرفياً باختيار بناء صرفي محدد) وهذه العلاقات الثلاث تسهم في وضعية الدلالة وتأثيرها.
وهكذا بدأت بحوث الإعجاز تتميز عن بحوث البلاغة وعلم الكلام، وفتح عبد القاهر والباقلاني باب تلك البحوث لمن جاء بعدهما. ففي القرن التالي لهما، وهو القرن السادس، نجد الاهتمام بالبحث في الإعجاز يتسع ليشمل متكلِّمين كأبي حامد الغزالي (شافعي المذهب)، والقاضي عياض (مالكي المذهب)، ومفسرين كالإمام الزمخشري([٤٠]) وابن عطية([٤١]).
وفي القرن السابع نجد الإمام فخر الدين الرازي، وهو مفسر مشهور ويأخذ تفسيره المُسَمَّى "مفاتيح الغيب" طابعاً خاصاً يهتم بالرد على فرق كثيرة من المتكلِّمين والزنادقة([٤٢]).
ونجد السكاكي البلاغي في كتابه: "مفتاح العلوم" الذي يعدّه كثير من الباحثين خاتمة كتب البلاغة القديمة في صورتها الإبداعية، ويعدّون مؤلفات البلاغة بعد السكاكي مجرد شروح وحواش وتلخيصات واجترار لما قاله السابقون.
كما نجد اهتماماً بالبحث في الإعجاز في هذا القرن أيضاً عند ابن العربي الآمدي، علي بن أبي علي (ت ٦٣١هـ)، وحازم القرطاجني (ت ٦٨٤هـ)، ثم البيضاوي المفسر([٤٣]).
وفي القرن الثامن نجد آراء قيمة للزملكاني (ت ٧٢٧هـ) في كتابه: "التبيان في إعجاز القرآن"، وابن تيمية (ت ٧٢٨هـ) في كتابه: "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن"، والخطيب الذي لخص كتاب: "مفتاح العلوم" للسكاكي، ويحيى بن حمزة العلوي صاحب كتاب: "الطراز" (ت ٧٤٩هـ)، وابن القيم (ت٧٥١هـ) صاحب كتاب "الفوائد المشوقة إلى علم القرآن وعلم البيان"، الذي يتناول فيه بإسهاب قضية الإعجاز القرآني وما سبقه من آراء فيها. كما نجد إشارات للإعجاز في تفسير ابن كثير (ت ٧٧٤هـ)([٤٤]).
وتتابعت الكتابات في الإعجاز القرآني بعد ذلك، حيث نجد في القرن التاسع آراء لابن خلدون والفيروزآبادي والمراكشي.
وفي القرن العاشر يظهر السيوطي بكتابيه: "الإتقان في علوم القرآن" و"معترك الأقران في إعجاز القرآن"، وكتابه الثاني جامع ومفيد يقع في ثلاثة مجلدات، وهو في رأي بعض الباحثين أثمن كثيراً من الإتقان وأشمل، ويغفل عنه كثير من الباحثين على الرغم من قيمته العظيمة، وقد رتّبه الإمام السيوطي على خمسة وثلاثين وجهاً من وجوه الإعجاز، ويقدم لكل وجه بمن ألَّف فيه قبله، وهو يُعَدُّ سجلاً للمؤلفين والكُتَّاب في هذا الفن([٤٥]).
كما نجد في هذا القرن أيضاً تفسير أبي السعود([٤٦]) وبعض الإشارات عند طاش كبرى زاده.
وفي القرن الحادي عشر نجد الشهاب الخفاجي، وفي القرن الثاني عشر نجد الضرير المالكي الإسكندري، الذي تفرَّد بين علماء التفسير بوضعه تفسيراً منظوماً كاملاً للقرآن الكريم، كما نجد الجمل الذي وضع حاشية على تفسير الجلالين.
وفي القرن الثالث عشر يتميَّز الإمام الشوكاني بتفسيره: "فتح القدير"([٤٧]) والألوسي بـ: "روح المعاني"([٤٨]). وقد تحدث كل منهما في ثنايا تفسيره عن البلاغة القرآنية وجوانبها المختلفة. وخير ما نجده في هذا العصر كتاب "البرهان في علوم القرآن" للإمام بدر الدين الزركشي، وفيه مبحث جيد في إعجاز القرآن، والكتاب مطبوع حالياً في أربعة مجلدات ومتداول.
ومن الكتب الجيدة أيضاً التي تناولت الإعجاز بتفصيل دقيق "مناهل العرفان في علوم القرآن" للشيخ/ محمد عبد العظيم الزرقاني حيث عرَّف إعجاز القرآن بقوله: "أصل الإعجاز في اللُّغة: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، فهو من إضافة المصدر لفاعله، والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به.
والتقدير: إعجاز القرآن خلق الله تعالى عن الإتيان بما تحداهم به. ولكن التعجيز المذكور ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود لازمه وهو إظهار أنَّ هذا الكتاب حق، وأنَّ الرسول الذي جاء به رسول صدق، وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء، ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز، ولكن للازمه وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون عن الله تعالى، فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات، إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر، لحكمة عالية، وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة"([٤٩]). ولقد تناول في المبحث السابع عشر إعجاز القرآن وما يتعلق به بالتفصيل، فارجع إلى ذلك هناك([٥٠]).