ولم يعدم القرن الأخير كُتَّاباً شغلهم إعجاز القرآن فألَّفوا فيه كالرافعي في كتابيه: "آداب العرب" و"إعجاز القرآن"، والدكتور/ محمد عبد الله دراز في كتابه: "النبأ العظيم" في بعض مباحثه، وسيد قطب في كتابه: "التصوير الفني في القرآن"([٥١]).
وما زال في الساحة كثير ممن لا أحصيهم عدداً، وفي ضمير الغيب كثير ممن سَيُقَيَّضُونَ لهذا العمل الجليل، ويورثون علم هذا الكتاب العزيز حتى آخر الزمان.
[٩] نماذج من القرآن الكريم دالَّة على إعجازه البياني:
لنأخذ بعض الأمثلة الدالَّة على الإعجاز البياني على سبيل الإيضاح لبعض الجوانب المهمة في براعة أسلوب القرآن وكونه معجزاً.
يقول القاضي عياض: "أولها حسن تأليفه"، من حيث تركيبه بين حروفه، وكلماته، وآياته، وسوره، وقصصه، وحكاياته، وانتظام كلماته، في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها المتناسقة.
وهذا هو السر في أنَّ القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة، بل جاء كتاباً عربياً جارياً على مألوف العرب من هذه الناحية، فمن حروفهم تألَّفت كلماته، ومن كلماتهم تألَّفت تراكيبه، وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه، ولكن المعجز والمدهش أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه، ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها، وتنافسوا في حلبتها، وبلغوا الشأو الأعلى فيها، نقول: إنَّ القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله؛ قد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز. ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه، لأمكن أنْ يلتمس لهم عذر أو شبه عذر، وأنْ يسلم لهم طعن أو شبه طعن (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)([٥٢])، ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية. فقال جَلَّ ذكره في سورة يوسف: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)([٥٣])، وقال في سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)([٥٤])، وقال في سورة الزمر: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)([٥٥]).
ومن فصاحة القرآن وضوح بيان معانيه، مع اقتصاد مبانيه، مع إيجازه، وذلك بإيفاء واكتفاء وإيماء([٥٦])، غير مخل ولا ممل، ومن بلاغته في عجائب التراكيب، وغرائب الأساليب، وبدائع العبارات، وروائع الإشارات، المتجاوزة لعادة العرب من فصاحتهم وبلاغتهم.. حيث إنهم كانوا أرباب هذا الشأن من الفصاحة والبلاغة وفرسان الكلام، وقد خُصوا من البلاغة والحِكَم ومن كمال العقل ما لم يُخص به غيرهم من الأمم سابقة ولاحقة، حتى إنهم تساجلوا في النظم والنثر وتفاخروا وتكاثروا، فما راعهم إلاَّ رسول كريم جاءهم بخلاف هواهم لكنه معه هداهم.. حتى أتاهم بكتاب عزيز (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)([٥٧]) أُحكمت آياته، وفُصلت كلماته، وبَهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول نظماً أو نثراً. وهذا الوليد بن المغيرة سمع من النبي ﷺ :(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)([٥٨])، قال الوليد قولته المشهورة: "والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّ أعلاه لمثمر.. ما يقول هذا بشر"([٥٩]).
وكل هذا مما جعل القرآن الكريم في فصاحته وبلاغته خارقاً للعادة، يعجز المنكرين واعتراف المفترين، ولنأخذ مثلاً للتأمل في إعجاز بلاغته متأملاً الإيجاز الباهر في الإعجاز الظاهر في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)([٦٠]) نجد من بدائع التركيب وروائع الترتيب، مع ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين، وهما: القصاص والحياة. ومن الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوت الحياة ظرفاً لها. ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير، فإنَّ الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل اقتُصَّ منه دعاه ذلك إلى ردعه عن قتل صاحبه، فكأنه أحيا نفسه وغيره، فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضاً، فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة. وفي هذا نجد أنه أولى من كلام موجز عند العرب وهو أنَّ: (القتل أنفى للقتل)، في قلة المباني، وكثرة المعاني، وعدم تكرار اللفظ المنفر، وفي الإيماء إلى أنَّ القصاص ـ الذي بمعنى المماثلة ـ سبب للحياة دون مطلق القتل بالمقابلة، إذ ربما يكون سبباً لفتنة فيها قتل فئة وفساد جماعة.


الصفحة التالية
Icon