وقد جاء هذا الحكم في تلاوة قوله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: ١١]. وقراءة الميم قبيل النون المشددة في كلمة (تأمنا) هي ما يسمى بالإشمام..
وحين نقرأ الميم في هذه الكلمة بالفتحة وشفتانا مضمومتان فينتج عن ذلك نطق يدل على التردد وعدم الثقة في إجابة الطلب.. وهو بالفعل ما كان عليه إخوة يوسف حينما طلبوا من أبيهم أن يرسله معهم لأنهم كانوا يكيدون لأخيهم وكانوا في ريبهم يترددون.. لذا كان هذا الحكم في التلاوة ليوضح المعنى أصدق توضيح..
باقي الأحكام التلاوة:
إن هذا الموضوع يحتاج مزيداً من البحث والتدبر وفي هذا متسع لجميع الباحثين والذين أرجو الله أن يوفقهم للتفقه في علوم القرآن الكريم الذي لا ينضب معينه.
أرجو أن يوفقني الله لمزيد من الدراسة إنه على كل شيء قدير.
==============
مثل الحياة الدنيا ج٢
ج" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا"(الكهف: ٤٥).
هذا مثل آخر للحياة الدنيا ضربه الله تعالى لعباده، شبه فيه مثلها، في نضارته وبهائه، وجماله وحلاوته، بنبات الأرض، يكون أخضر وارفًا زاهيًا نضرًا، ثم بعد ذلك، يصبح هشيمًا جافًا، تحمله الرياح، لخفته ولطافته، وتفرقه في كل جهة من جهات هبوبها.. كذلك الحياة الدنيا، كنبات هذه الأرض.. وهكذا الأمور بعد زوالها؛ كأنها لم تكن!
ومناسبة هذا المثل لما قبله أن الله تعالى، لما ضرب في الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة مثل الكافر والمؤمن، وبين فيه حالهما، وما آل إليه ما افتخر به الكافر من الهلاك، أتبعه سبحانه وتعالى بضرب هذا المثل.
فقوله تعالى:" مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " مشبه، وهو معنى معقول موجود في الذهن، وقوله تعالى:" مَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ " مُشبَّه به، وهو معنى محسوس موجود خارج الذهن، وقد اجتمع المعنيان في الزينة والبهجة، ثم الهلاك والزوال.
هذه هي الحياة الدنيا، التي اغترَّ بها المغترون، وتهالك عليها المتهالكون. وهذا هو مَثَلها. ومثلها- على ما تقدم في المثل السابق- هو متاعها المماثل لها في تمام أحوالها وصفاتها. ولإفادة هذا المعنى جيء- هنا- بلفظ المثل في طرف المشبه، دون المشبه به. وقيل: إن هذا المثل مختصر من المثل السابق؛ وهو قوله تعالى:
" إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "( يونس: ٢٤ ) (١)
والغرض منهما: تنبيهُ العباد إلى أن كل ما في الحياة الدنيا من نعيم- كثُرَ، أو قلَّ- فمصيره إلى فَناء وزوال؛ كما أن نبات الأرض مآله إلى هلاك وبوار. وفي ضمن ذلك التحذيرُ من الاغترار بنعيم الدنيا، وزينتها؛ لأنه متاع ٌ فانٍ، وكلُّ فانٍ حقير، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى محذرًا:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ "(فاطر: ٥).
وقد بينت في المثل السابق سر الإعجاز في تقديم الماء على النبات في قوله تعالى:
" كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ "
إذ من حق كاف التشبيه أن تدخل على المشبه به، وهو النبات، لا الماء، كما بينت سر الإعجاز في مجيء هذه العبارة الموجزة، على هذا النظم البديع، الذي جعل نبات الأرض هو الذي يختلط بالماء، فينمو ويحسُن، ويعلوه الزهر والنور والنضرة.. وذكرت أن المراد بنبات الأرض هو حَبُّها، الذي بُذِر فيها قبل أن يكون نباتًا، وأن معنى الباء في قوله تعالى:" فَاخْتَلَطَ بِهِ " الإلصاق والاختلاط.
وعلى الرَّغم من هذا التطابق، الذي نشاهده بين المَثلين فإن ثمَّةَ فروق ظاهرة بينهما، لا بدَّ من الإشارة إليها، والكشف عن أسرار الإعجاز فيها:
١- وأول هذه الفروق: أن ما ذكِر في المثل الأول من مراحل حياة النبات، قد طُويَ أكثره في هذا المثل، ولم يذكَر من ذلك سوى: اختلاط النبات بالماء المنزل من السماء، ثم انتهاؤه إلى أن أصبح هشيمًا، تذروه الرياح.
وسبب ذلك أن الله تعالى، لما أراد أن يزهِّد عباده في متاع الحياة الدنيا ونعيمها، ويرغبَّهم في الآخرة، أخبرهم أن بغيهم على أنفسهم باطل، لا بقاء له، وأن مرجعهم في النهاية إليه سبحانه، فينبئهم بما كانوا يعملون في هذه الحياة الدنيا الفانية؛ وذلك قوله تعالى: