قال تعالى في سورة آل عمران (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)) فما دلالة تقديم السجود على الركوع؟
هذا من دقة القرآن الكريم. والبعض يوقولن أن هذه كنت عبادتهم لكن لا يوجد دليل على ذلك وعندما ندقق نجد أن الكلام في لغتنا على طريقتين: إما الترقّي من الأدنى إلى الأعلى أو التدني في الأعلى إلى الأدنى. والكلام في الآية هي الترتيب من العام فالخاصّ فالأخصّ. والقنوت عام يكون في الصلاة وفي غيرها فهو عام ثم انتقل إلى الخاصّ وهو السجود لأنه يكون في الصلاة وفي سجود التلاوة وسجدة الشكر لكنه أخصّ من القنوت ثم انتقل إلى الركوع الذي هو أخصّ من السجود فلا ركوع إلا في الصلاة.
وفي آية أخرى قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿س﴾(٧٧) الحج) هنا انتقل من الأخص فالخاص فالعام فالأعم. والركوع أخص الخصوص ثم انتقل إلى السجود ثم العام (اعبدوا ربكم) ثم الأعم (وافعلوا الخير).
وفي قوله تعالى (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) عبس) قدّم الأخ وهذا الترتيب جاء من المهم فالأهم زيادة في التهويل والتعتيم لهذا الموقف. الإنسان في الدنيا يتمسّك بأخيه وبأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. ونلاحظ أنه قال صاحبته ولم يقل زوجه مثرً لأن الحق تعالى يصوّر الفرار في هذا اليوم من أعز الناس على هذا الإنسان (لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه) ونعض الزوجات قد يكون بينها وبين زوجها شيء من المشاكل فربما يفهم البعض أن الزوج يفر منها في الآخرة بسبب ما بينهما من مشاكل في الدنيا لكن استخدام كلمة صاحبته ينفي هذا الإحتمال لأن الصاحبة تدل على المصاحبة فهي التي صاحبته في حياته. وقد جاء في الآية الكريم ذكر الترتيب الطبيعي في الفرار فآخر ما يفر الإنسان من بنيه لأنهم أغلى ما عنده.
أما في آية أخرى (ومنه قوله تعالى (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) المعارج) فاختلف الترتيب ولم يرد ذكر امه وأبيه هنا وذلك لأن الآية تتحدث عن الإفتداء فابتدأ بالترتيب من بنيه لأنهم أعزّ وأغلى ما لديه يقدمهم ليفتدي بهم نفسه لو استطاع ثم بالأدنى فالأدنى. ولم يرد ذكر الأم والأب كما قلنا لأنه لا يصح أن يفتدي الإنسان بهما مهما كان وهذا حفاظاً على مكانتهما والبرّ بهما.
قال تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) وقال في آية أخرى (ولا تمشي في الأرض مرحا) كيف نفرق بين الأمر بالمشي والنهي عنه؟هذه من دقة القرآن الكريم. ففي الآية الأولى ذكر أن عباد الرحمن يمشون على الأرض باستخدام حرف الجر (على) الت تفيد الإستعلاء والتمكّن والمؤمن يمشي مستعلياً متمكناً والدنيا ليست في قلبه فهو يعلن أنه مفارقها وهو في هدوء واطمئنان واثق في خطواته. أما في الآية الثانية فالله تعالى نهى الإنسان عن المشي في الأرض الذي يدل على التكبر والإستعلاء (باستخدام حف الجر في) الذي يفيد الظرفية فالإنسان المتكبر يمشي ويدبّ ف الأرض كأنه يريد أن يخرقها (إنك لن تخرق الأرض) فكأن الله تعالى ينهى في مشية الإنسان أن يمشي متكبراً.
وجاء في آية أخرى (فامشوا في مناكبها) المشي في الأصل على الأرض وعندما نهى كان النهي عن المشي في الأرض تكبراً أما في هذه الآية فالأمر بالمشي هنا المقصود به الحصول على الرزق الذي يحتاج إلى عمق في الحركة ويحتاج إلى جهد.
وقال تعالى في آية أخرى (أفلم يهد لهم يمشون في مساكنهم) ونقول كيف جاءت هنا يمشون في؟ المقصود بهذه الآية المشي للإعتبار والتأمل وليس مجرد المرور على المساكن. فكأن الآية تخاطب اللاحقين بأن يعتبروا من الأمم السابقة.
وفي قوله تعالى (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) هذا مثال للمؤمن فالمؤمن ينفع من حوله ولا يتوقف عند حدّ الإهتداء والإيمان وإنما يؤثّر على من حوله فيمشي بنور الإيمان في الناس بالتخلّق بأخلاق الإيمان.
الفرق بين اسطاعوا واستطاعوا وتسطع وتستطع في سورة الكهف:
قال تعالى () فعل اسطاعوا جاء مع يظهروه وفعل استطاعوا جاء مع النقب وهذا لأن الصعود فوق السد أيسر بكثير من إحداث نقب فيه فاستعمل الفعل الذي هو أقل حرفاً مع الفعل الأيسر والأسهل. أما استطاعوا فجاءت مع الفعل الأصعب وهو إحداث النقب في السد.