كما يقول كثير من المفسرين- لا يتأتى إلا إذا فسر أوحينا بأرسلنا وبين- سبحانه- في الآية أن الروح الموحى به من أمره فلا دخل لأهواء الناس ونزعاتهم فيما أوحي به ولا تأثير لشيء عليه وفي التعبير بالروح أيضا ما يشعر بأن الموحى به سبب للحياة، كما أن الروح التي تنفخ في الجسم سبب لحياته، وإنما حياة الناس بالروح الموحى به حياة معنوية فهي حياة العقول والأفكار وحياة المشاعر والأحاسيس ثم أتبع ذلك قوله (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) لإظهار المنة على النبي ﷺ الذي أكرمه الله بالوحي وهداه به ولم يكن يقرأ قبله من كتاب ولا يعرف تفاصيل الإيمان وإن وقر مجمل الإيمان في قلبه، إذ لم تؤثر حياة الجاهلية على عقله ولا سلوكه ثم تلا ذلك قوله (نهدي به من نشاء من عبادنا) لبيان أثر القرآن فهو نور من الله يشرق على العقول فيهديها ويطوي من النفس ظلمات الطبع ثم بين - تعالى - تشريفه لرسوله ﷺ بجعله هاديا إلى صراط مستقيم يهدي ببيان ما أنزل إليه من الكتاب يفصل مجملاته ويوضح مبهماته وينشر طواياه فانظر إلى هذا التناسق بين الكلمات والتساوق في المعاني وما تجده من لذة وقع الكلمات في سمعك وأثر معانيها في نفسك، وتجد التآلف بين الحروف كالتآلف بين الكلمات وخذ مثلا قوله تعالى عن أخوة يوسف (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) (يوسف/٨٥) تجد تصدير المحكى عنهم بالقسم ولم يكن القسم بالباء أو الواو وإنما كان بالتاء وهي مقرونة بما يضاهيها من الحروف والكلمات في الشدة والندره، منها كلمة (تفتأ) التي تكررت فيها التاء وتلتها الهمزة وهي من الحروف الشديدة أيضا، وجردت تفتأ من لا النافية لتخلص
الشدة في التركيب ثم جاءت كلمة (تذكر يوسف) وتذكر فيها حرفان من حروف الشدة وهي التاء والكاف، ثم جاءت جملة (حتى تكون حرضا) في هذا الموضع لتتم ندرة التعبير فإنها مع ثقلها نادرة الوقوع، وهذا التعبير القرآني يعكس الحالة النفسية التي كان عليها المحكى عنهم فإنهم كانوا يشعرون كلما طرق ذكر يوسف مسامعهم أو خطر على قلوبهم ببشاعة جريمتهم فتتصور لهم في سويداء قلوبهم وتتمثل لهم أمام سواد أعينهم وتجرد لهم ضمائرهم سياطا من الملامة تلذعهم بوقعها في نفوسهم، فقد جنوا على أبيهم الشيخ الكبير الحاني وعلى أخيهم الناشئ الصغير الضعيف وهم يرغبون في التخلص من الإحراج الذي يواجهونه كلما دار اسم يوسف على لسان لا سيما لسان أبيهم الذي لا ينفك عن ذكره ولا تبارح نفسه ذكراه. فلا غرو إذ جئ بمثل هذه الكلمات الشديدة النادرة في الحكاية عنهم، وقل مثل ذلك فيما حكي عنهم من قولهم (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) (يوسف/٧٣) فإن الحكاية قسمهم بالتاء تعكس انفعالهم وكذلك ما ذكر عن إبراهيم عليه السلام من قوله (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (الأنبياء/٥٧) فإن المقام مقام غضب وانفعال من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بسبب تعنت قومه في الكفر وإصرارهم عليه واتخاذهم الأنداد لله سبحانه. سر ميزة التعبير القرآني وقد يتساءل بعض الناس كيف تكون هذه الميزة للتعبير القرآني؟ وكيف يعجز العرب عن الإتيان بمثله؟ مع أنه لم يأت بجديد من الحروف والكلمات فحروفه هي حروفهم التي ألفوها وكلماته هي كلماتهم التي عرفوها وأرى أن ترك الإجابة هنا للباحث الكبير الدكتور محمد دراز الذي أجاب عن مثله في كتاب (النبأ العظيم) بأن صنعة البيان كصنعة البنيان، فالمهندس الماهر لا يأتي بمادة جديدة في البنيان ولكن يظهر تفوقه بحسن التصميم وباختيار النوع الجيد من