مادة البناء وترتيبه للغرف والأبهاء حتى تتسع المساحة الصغيرة من الأرض لكثير من الحجر التي لم تكن لتتسع لها لولا حسن الترتيب وحتى يتخللها الضوء والهواء إلى غير ذلك من نحو خفة السقف ومتانة الأسس، فكذلك يكون التفاوت في صنعة البنيان في جودة المعاني وترتيب الكلمات وإلا فالحروف هي الحروف والكلمات هي الكلمات، وأريد أن أضيف إلى ما يقوله العلامة دراز شيئا آخر وهو أن التفاوت بين صنعة- تفاوت لا تمكن معه المقارنة فالناس يصنعون من مادة التراب أنواع الأوعية الخزفية والآجر وسائر المصنوعات المألوفة وهي كلها من أنواع الجمادات الميتة والله تعالى صنع من التراب نفسه الإنسان وجميع عناصر التراب موجودة في جسمه وقد نفخ الله فيه من روحه فسرت الحياة إلى كل خلية من خلاياه وجعل فيه من الغرائز والطبائع والأحاسيس والأفكار ما يؤهله لأن يكون خليفة في الأرض، وجعل فيه من عجائب التكوين ما يبهر الباحثين فجسمه يشتمل على ملايين الملايين من الخلايا ولكل خلية وظيفتها ولكل خلية مطالبها التي هيأها الله تعالى لها، وهكذا مثل الفارق بين كلام الله وكلام الناس فالحروف هي الحروف والكلمات هي الكلمات ولكن لكلام الله روح تميزه ليست في كلام الناس، وبسبب هذه الروح كان هذا القرآن يسري في نفس أي إنسان سريان الروح في الجسم والضوء في الفضاء والماء في الشجر. ويتميز القرآن عن كل كلام بأنك لا ترى فيه أثرا للسأم ولا تجد فيه ما يشير إلى الملل ولذلك لا تستطيع أن تفاصل بين عبارة وأخرى منه فهو كنهر من النور كل حرف منه لمعة نورانية ساطعة بينما كلام الخلق تظهر فيه بأحدهم جواد البيان فترى في كلامه الإسفاف الذي لا يقارن ببليغ كلامه فهذا امرؤ القيس من نوابغ شعراء الجاهلية تجد له كبوات في شعره ومثله المتنبي من كبار شعراء المولدين وقل مثل ذلك في جميع الشعراء والخطباء والكتاب بدون استثناء. عجز العرب عن الطعن في القرآن أو معارضته وقد ترصد العرب
للقرآن وأمعنوا النظر في حروفه حرفا حرفا علهم يجدون ما يأملون من مطعن، ولكن وجدوا كل جملة تبهرهم بتركيب كلماتها وتناسق حروفها وتآخي معانيها وجمال تصويرها وسعة مدلولها بحيث لا تبقى خاطرة تخطر بالنفس إلا وقد استوفتها في الدلالة، والناس مهما أوتوا من ملكة البيان فبيانهم لا يفي بما في نفوسهم من التصورات فقد تتناسق في نفس أحدهم المعاني الكثيرة فإذا جاء يعبر عنها أخفق في التعبير وجاء بيانه دون ما يرمي إليه وهذا لأن فنية التصوير تكون دائما وأبدا أقل من عمق التصور وهذا أمر مشترك بين جميع البلغاء لا فرق فيه بين العرب وغيرهم، وقد قسم أحد الكاتبين الكلام إلى ثلاثة أقسام (صوت النفس وصوت العقل وصوت الحس). فصوت النفس هو الكلمة التي تخرج حاملة معها نبرات حروفها مع ما توحيه تلك الحروف باختلاف مخارجها وتعدد صفاتها من إيحاءات خاصة فهذه الكلمة هي خطوة من خطوات المعاني تتقدم بها إلى النفس. وصوت العقل هو ما يشد الإنسان ويثير انتباهه من معان تؤدي بالعبارات البليغة التي تصل إلى موضع الإقناع من العقل والوجدان من القلب. وصوت الحس هو أعمق أثر وأقوى تأثيرا من ذلك كله وهو أن يستولي الكلام على حس الإنسان استيلاء يجعل النفس تشعر أنها منساقة إلى هذا التعبير انسياقا لا تملك دفعه وتنجذب إليه انجذابا لا تستطيع تصوره ولا تصور أسبابه، ذلك لما في الكلام من روح غيبية فوق مدارك الأفهام وهذا الصوت إن وجد في كلام الناس فهو نادر الوقوع ولا يكون إلا في كلمات معدودة أما أن يكون في جميع الكلام أوله وآخره فهو لم يعهد إلا في القرآن وحده، فكل حرف من حروفه تسري فيه هذه الروح الغيبية فتجعله نابضا بحياة لا توجد فيه لو أزيل من موضعه ووضع في أي موضع من كلام بلغاء البشر، وبهذه الروح التي يتميز بها القرآن ملأ قلوب العرب سر إعجازه فكان هذا الإعجاز راسخا في قرارة كل نفس من نفوسهم وإن أنكروه بأطراف ألسنتهم وكان هذا الإحساس لا ينفك


الصفحة التالية
Icon