إننا نقصد بهذه الحقيقة بيان هل الإعجاز في القرآن يتعلق ببيانه وبلاغته فحسب أم يتعلق بتأثيره على قلوب سامعيهم أم يتعلق بوفائه بحاجة البشر جميعا أم يتعلق بموسيقاه أم يتعلق بتشريعاته الفريدة ام يتعلق بأخباره عن الغيب ام يتعلق بقضاياه العلمية التي سبقت كل تطور علمي وتكنولوجي ام بكل ما سبق ام ماذا تحديداً ؟!
إن جل العلماء ذهبوا إلى أن إعجاز القرآن يكمن بيانه وفصاحته وأنه ما نزل إلا على قوم قد برعوا في هذا الأمر وتحداهم فيه وربما يكون هذا الرأي هو الأرجح عند الكثيرين من العلماء لكن أهل هذا العصر الذي نعيش فيه جاءوا وقد ضاعت منهم العربية الفصحى بل وأهملوها حتى أصبحنا نلوك بألسنتنا لهجات الغرب ولغاته وأصبح مقياس تقدمنا وتحضرنا هو كم من لغات العرب نعرف ونتقن ؟!.
جاءوا يقولون كيف يصلح القرآن لهذا الزمان الذي ازدهرت فيه العلوم وتطورت فيه شتى الفنون كالطب والهندسة والفلك وأسرار البيولوجيا والذرة ؟ إننا في إثناء حاجة ماسة إلى تفسير عصري للقرآن يواكب هذه التطورات المذهلة في شتى الفنون وبما أن الساحة العلمية تكاد تكون شبه خالية من هذه التفاسير الحديثة والثقافات المتحضرة إذا فالقرآن لا يصلح لهذا العصر وبالتالي ليس أهلاً للتحدي والإعجاز كما يدعي البعض أنه صالح لكل زمان ومكان ومعجزة في كل وقت وحين، هذه وجهة نظر (التقدميين) على حد زعمهم أنهم كذالك.
وكنا قد أزلنا اللثام عن هذه النظرة المغرضة وأبطلناها بقوة وبحجة وبرهان وبينا في لقائنا الماضي أن القرآن والعلم لا يتناقضان أبداً بل يتحدان بل القرآن يدعوا للعلم والعلم يوصل إلى الإيمان بالقرآن والتصديق بكل ما جاء به.
وكأن هؤلاء التقدميين يقصدون أن إعجاز القرآن وتحديه كان في الماضي فقط لقوم اندثرت أخبارهم ومحيت آثارهم وما عاد منهم إلا النذر اليسير ومما لاشك فيه أن التحدي بالقرآن الكريم إنما كان لكل إنسان على هذه الارض عربيا كان أو أعجميا وذلك لعموم قوله تعالى (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )).
وقد يقول قائل كيف يتحدى القرآن أجناساً لا تتحدث العربية ولا تعرف عنها شيئا؟
وقد أجاب بعض العلماء على هذا الاعتراض بجواب ضعيف مضمونه أن وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة وإن كان هؤلاء جاهلين باللغة العربية فهم عاجزون عن باقي الوجوه مثل الإخبار بالمغيبات أو وفاؤه بحاجات البشر أو الإعجاز العلمي أو غير ذلك مما ذكرنا من الوجوه سابقاً.
ووجه الضعف في هذا الجواب هو أننا لو سلمنا بصحة ذلك فنكون قد أسقطنا الإعجاز البياني للقرآني كوجه من وجوه التحدي وهذا مرفوض قولا واحداَ.
والجواب الصحيح هو أن القرآن الكريم إذا كان قد تحدى العرب وهم أهل البلاغة والفصاحة والبيان وقد عجزوا عن الإتيان بمثله فإن غيرهم من أهل الأجناس الأخرى ومن أتوا بعد العصر الأول أشد عجزاً.
وفي هذا أرد على أولئك الذين ينقصون من قدر الإعجاز البياني في العصر الحديث بحجة أن أذواق الناس قد ضعفت عن تذوق بلاغة القرآن الكريم يقول الإمام أبو الحسن الأشعري فيما ينقله عنه السيوطي في معترك الاقرآن ( والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من ليس ببليغ - فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله )
ومن هنا نستطيع القول بأن الإعجاز البياني للقرآن الكريم ملازم له في كل وقت وحين منذ أن نزل به الوحي الأمين على قلب رسولنا الكريم محمد ﷺ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذا من جهة الإعجاز البياني.
أما بقية وجوه الإعجاز فحقيقة الإعجاز فيها أن كل وجه منها على حده يتعلق بالنص القرآني كنص إلهي بقطع النظر عن العصر الذي يستقى من القرآن مآربه ومشاربه، وأقصد بذلك تفصيلاً أن تأثيره على القلوب مثلاً-كوجه إعجازي ملازم للقرآن على الدوام مهما اختلفت العصور ومهما اختلفت ظروف الناس وأحوالهم وطبائعهم فتأثيره على القلوب ثابت لا يتغير.
واما وفاؤه بحاجات البشر فهذا باتفاق أهل العلم أن القرآن لم يترك شيئا من أمر دين الناس ودنياهم من مصلحة وخير لهم إلا وحد تهم عنه إجمالا أو تفصيلا وإما تصريحاً أو تلميحاً وإذا كان الناس لا يدركون ذلك فالعيب فينا نحن الناس وليس في القرآن قال تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء )
وكذلك الأمر في موسيقاه وهذا الأمر لا يدرك الإعجاز فيه إلا أرباب الصنعة كما هو الحال في الإعجاز البياني وعجز المختصين عن الإتيان بمثله خير برهان على عجز غير المختصين من باب الأولى.
أما الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم فهذا يشعر به ويلمسه أهل التشريع من البشر في كل عصر ومصر.
وقد يقول قال : كيف نثبت الإعجاز التشريعي للقرآن وقد نزل على قوم لاعلاقة لهم بالتشريع ونحوه ؟
ونجيب على ذلك بأنه لا يلزم من عدم إدراك الشيء والإحساس به عدم وجوده فقديما كان الناس لا يدركون ولا يشعرون بالجاذبية الأرضية بينما هي الحقيقة موجودة كانت وما زالت وستظل.