إذا فالقرآن يتحدى العرب ببيانه وكانوا أهل بيان.
وتحدي أهل هذا الزمان بسبقه العلمي وهم أهل علم وتقدم حضاري،
وتحدى أهل التشريع في كل زمان وكانوا ومازالوا موجودين في عصور وأمصار مختلفة.
إذن نخلص من هذا كله أن حقيقة الأعجاز في القرآن هي ان تحدى القرآن للثقلين جميعا لا يقتصر على عصر بعينه ولا مصر مجدد وإنها إعجازه لازم له بلزوم وجوده على مدار العصور والدهور وفي كل محلة ومصر كل على حسب ظروفه واحواله وثقافته وفكره وتقدمه وحضارته.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. حامد محمد عثمان
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد بجامعة الطائف
============
الإعجاز البياني في القرآن الكريم
د. حكمت الحريري
مظاهر الإعجاز البياني وخصائصه:
١. التنسيق في تأليف العبارات بتخير الألفاظ ثم نظمها في نسق خاص يبلغ من خلالها أرقى درجات الفصاحة.
إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول وأدق تعبير وأجمله وأحياه أيضاً، مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو. ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال، ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما لا يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً، لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال.
فمن خصائص الإعجاز البياني في القرآن أنه يقتصد في الألفاظ ويفي بحق المعاني، وهاتان النهايتان لا يمكن الجمع بينهما إلا في لغة القرآن الكريم، فالذي يعمد إلى ادخار اللفظ لا ريب أنه لا يستطيع أن يعبّر عن مراده فيحيف على المعنى ولذلك يصبح اللفظ هيكلاً لا يكسوه لحماً.
والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره لا بدّ له من كثرة الألفاظ ليشفي صدره فيكون هنالك إملال وإسراف وتكلف باستعمال الألفاظ والتراكيب الغريبة.
ومنهم من يلقي حول المعنى كلاماً كثيراً وركاماً من الحشو والفضول فيبدد المعنى.
ولكن كيف تجمع هاتان الغايتان على تمامهما في القرآن الكريم فنجد فيه البيان الذي لا تخمة فيه ولا مخمصة التقتير ليؤدي لك المعنى بصورة نقية وافية.
والأدلة على تنسيق العبارات والقصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى تشمل القرآن كله من أوله إلى آخره، طوال السور وقصارها، وإنما نقتصر على ذكر بعض الأمثلة:
فقد قال الأصمعي سمعت جارية أعرابية تنشد:

أستغفر الله لذنبي كله قبلت إنساناً بغير حله
مثل الغزال ناعماً في دّله وانتصف الليل ولم أصله
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك؟ فقالت: ويحك أو يعدّ هذا فصاحة مع قول الله - عز وجل -: ((وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين))[القصص: ٧].
فقد جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
وقال ابن القيم في بيان أسباب الانتفاع بالقرآن:
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به - سبحانه - منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله قال - تعالى -: ((إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد))[ق: ٣٧]
وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتض ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.
وتدبر قوله - تعالى -: ((فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى)) [طه: ٦٧ - ٦٨].
ففي هذه الثلاث الكلمات - إنك أنت الأعلى - ست فوائد:
الأولى: "إن" المشددة التي من شأنها التأكيد لما يأتي بعدها.
الثانية: تكرير الضمير في قوله - تعالى -: "إنك أنت" لتقرير الغلبة واثبات القهر.
الثالثة: لام التعريف في قوله "الأعلى" للتخصيص أي أنت الأعلى دون غيرك.
الرابعة: لفظ "أفعل" الذي من شأنه التفضيل، فلم يقل "العالي".
الخامسة: إثبات الغلبة من عال.
السادسة: الاستئناف في قوله: "إنك أنت الأعلى".
ولم يقل: لأنك أنت الأعلى لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه لأنه عال، وإنما نفى الخوف عنه أولاً بقوله "لا تخف"، ثم استأنف الكلام بقوله: "إنك أنت الأعلى" فكان ذلك أبلغ في تقرير الغلبة لموسى - عليه الصلاة والسلام - واثبات ذلك في قلبه ونفسه.
فهذه ست فوائد في هذه الكلمات الثلاث. فانظر أيها المتأمل إلى هذه البلاغة العجيبة التي تحير العقول وتذهب الألباب، ومعجزة هذا الكلام العزيز الذي أعجز البلغاء وأفحم الفصحاء ورجلّ فرسان الكلام.
ثم تدبر قوله - تعالى -: ((ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين)) [الأنبياء: ٤٦]
لترى في نظم هذه الكلمات من جزالة اللفظ ووضوح المعنى ما لا يأتي مثله في كلام البشر.


الصفحة التالية
Icon